إبراهيم العبادي
تباينتْ ردود الأفعال كثيراً بشأن ما جاء في خطبة الجمعة ليوم 2019-11-22، فقد كان الكثيرون يتوقعون من المرجع السيستاني مواصلة مسار التصعيد المتدرج لخطب الجمعة التي رافقت التظاهرات والحراك الاحتجاجي (الشيعي) الذي انطلق في الأول من تشرين الأول الماضي، لقد شعر هؤلاء بـ (خيبة أمل) كبيرة عندما لم يجدوا توقعاتهم في محلها، كانوا يريدون خطبة حماسية، أعلى صوتاً وأقوى نبرة من الخطبة التي سبقتها.
لكن الذين خاب أملهم لا يعرفون منهج عمل المرجعية السيستانية ولا المحددات والمنطلقات الشرعية التي تتحرّك بها، فبسطاء الناس يتوقعون من المرجع أن يرسم لهم خريطة طريق الاحتجاج والثورة، ويحدد لهم الأهداف، وينوب عنهم في حراكاتهم، وهم ليسوا سوى حشودٍ تهتف بشعارات، لتحقيق ما رسمه المرجع من أهداف !!؟، والمثقفون والأكاديميون والمتفقهون يعتقدون أن المرجع هو الفاعل الديني الأقوى والأكبر، وهو أحد أطراف المعادلة السياسية وإن لم يكن فاعلاً سياسياً، بحكم موقعه وتأثيره ورعايته للنظام السياسي، ابتداء من كتابة الدستور وحتى اللحظة الراهنة، وهؤلاء ايضا يفترضون أن المرجع لا بد أن يتدخل في كل صغيرة وكبيرة تمس حياة الناس وواقعهم السياسي والاجتماعي، ولأن النظام السياسي العراقي يعاني الانسداد ويعيش أزمة خانقة، والناس تتظاهر في الشوارع منذ شهرين تقريبا، ووضع البلاد بات يقترب من حافات الهاوية، لذلك لا بد أن يرسم المرجع مسار الحل لهذه الازمة، طالما انه وقف الى جانب الاحتجاجات وطالب بالاصلاح وندّد بفساد السياسيين وسوء تدبيرهم .
لفهم طبيعة عمل المرجعية السيستانية واستجاباتها للاحداث، نحتاج الى تفصيل لا يسعه عمود اسبوعي، لكن يمكن القول اجمالا إن السيستاني يؤسس لمنهج او قل نظرية جديدة في الفقه السياسي الشيعي تعتمد مبدأ حرية الناس وإراداتهم، كمصدر للشرعية السياسية، ولا يرى السيستاني لنفسه دورا أكبر من تعضيد هذه الارادة ومساندتها، لتبديد سوء الفهم الذي رافق مسار الشيعية السياسية وهي تتحرك مضغوطة بفهم تاريخي لولاية الامام ونائبه المرجع، او خروجا على هذا الفهم وتفلتا من كل مترتباته الشرعية والاخلاقية .
السيستاني يراقب الاحداث والوقائع، لا من منطلق صاحب الولاية على الناس، بل من منطلق درء الفتنة ودفع المفسدة والداهية العظمى التي قد تقود الى الفوضى واراقة الدماء والعنف والسحل في الشوارع وضياع حقوق الافراد واضطراب معاشهم، لن ينوب المرجع عن الشعب اذن في تقرير مصيره واختيار الساسة الذين يحكمونه، ولن يكون الا مرشدا وناصحا وموجها ومحذرا فحسب، من يطالبونه بأكثر من ذلك، كبعض المثقفين والمدونين يريدون المرجع ان يعمل وفق امزجتهم وافهامهم، بل يريدون منه ان يخالف متبنياته الفكرية والفقهية، واذا لم تتطابق رؤاه مع رؤاهم تصاعدت اصواتهم، ولم ينتبهوا الى ان رؤية المرجع الاعلى تحددها متبنياته ومصالح الناس وليست وليدة اندفاعات الشارع أو اوهام النخبة، وقد اعتادت مدرسة النجف في الاعم الاغلب من مواقفها ان تمارس الحذر والاعتدال، وتنظر الى جميع اطراف المشكلة لا كما يريد المتحمسون، فأزمة العراق الراهنة فيها الاطراف الدولية والاقليمية ومناصروها في الداخل، وفيها النظام السياسي واحزابه، والجمهور الغاضب وجماعات الاستثمار والتوظيف والمتربصون ومنتهزو الفرص،هدف هذه الموجة من الاحتجاجات هو تصحيح المسار السياسي واصلاح النظام وحماية حقوق الشعب وايقاف الفساد والمفسدين، وهذه لن تتحقق الا بنظام انتخابي جديد يوسع دائرة المشاركة الشعبية ويعيد الثقة بالحكم وينهي احتكار السلطة، البلاد تحتاج الى رشد سياسي وحكمة مفقودة، تحسب احتمالات انفلات الامور واستعداد جماعات متعددة للعنف المسلح دفاعا عن مواقعها ومصالحها.