(روح الأمة العراقية) في حوارات النخبة

الثانية والثالثة 2020/06/22
...

ابراهيم العبادي
 

أثار (حديث الاثنين) الماضي عن روح الامة العراقية ردودا ومداخلات شارك فيها  نخبة من المثقفين والاكاديميين والمهتمين بالشأن السياسي، وبقدر ما عبرت هذه الردود عن حيوية فكرية فانها رسخت القناعة باننا لم ننتهِ بعد من حسم قضايا جوهرية واساسية في اجتماعنا السياسي بما يسمح بتوظيفها واستثمارها والبناء عليها ايجابيا لمواجهة تحديات كبيرة وخطيرة .
اولى هذه القضايا الجوهرية كان ولا يزال السؤال المؤرق لنا جميعا، من نحن؟ ما هويتنا، هل نحن امة ناجزة بالتعريف الثقافي والسياسي؟ او اننا شعب كما كانت ادبيات القوميين تسمينا،؟ هل ان الرابطة التي تربط العراقيين الان هي رابطة الدم او العقيدة والدين، او رابطة الولاء للجغرافيا، او هي المصلحة المؤقتة؟.
هل نحن نتاج تاريخ طويل وسلالات ممتدة، وتحولات عقائدية وفكرية، أو اننا حصيلة اتفاقيات دولية وكيان سياسي مصطنع كرسته اتفاقية  سايكس بيكو (1916) التي ارغمت مجموعات سكانية على العيش المشترك ضمن حدود سياسية وجغرافيا محددة؟.
كل هذه الاسئلة يتم استحضارها مباشرة، بعد كل حديث عن توصيف المجتمع العراقي، وهويته، وكيف يرى ذاته وعلاقاته البينية، وكيف يراه الاخرون؟.
في سياق الردود والتعقيبات التي تلقيتها، كان الاعتراض والتساؤل الاول يدور حول القضية الجوهرية الاساس، هل نحن امة بالفعل حتى تطالبنا (كاتب العمود)  بإحياء روحها  وتحفيزها 
واستنهاضها؟. 
كنت طرحت السؤال ولم ارد الاجابة عنه بشكل قاطع وجازم فقد ابقيت نهاياته مفتوحة لعلمي بان النخبة العراقية منقسمة بالفعل حيال هذا الموضوع، فنحن نواجه تصدعات في الهوية، وانقسامات حادة في الجماعة السياسية، ومحاولات فيدرالية ذات نزعات هوياتية فرعية، قومية ومذهبية، ومشاريع تقسيم وانفصال، وكل هذه المظاهر تعكس نفسها في جدل سياسي يومي ومشاعر كراهية وبغضاء يعبر عنها المتطرفون من كل اطراف الجماعة (الوطنية) العراقية، ومازال التفكير السياسي اليومي يعبر عن نفسه بما يكرس القناعة باننا لسنا امة، بل شعوب ومذاهب واقليات، ولكل منا مرجعياته الفكرية والسياسية والعقائدية والرمزية، وكل جهة من هذه الجهات تجد ذاتها في جماعة اكبر خارج حدود العراق الطبيعية والسياسية، هذا يعني ان الحديث عن امة عراقية هو ضرب من التمني لا يكرسه التاريخ ولا يؤكده الحاضر، بينما يرى اخرون اننا امة متكونة من شعوب وجذور قومية متعددة وديانات ومذاهب، لكننا يجمعنا الانتماء الى حضارة وتاريخ وجغرافيا العراق الطبيعية وان السلالات البشرية التي عمّرت وبنت الحضارات المتعاقبة لا يزال يجمعها رابط وثيق ومشاعر قوية ومزاج خاص وثقافة مشتركة وارادة عيش مشترك وخصوصية تطبع الشخصية العراقية بطابعها الخاص، ولا يضير ذلك وجود جماعات متمردة واخرى متفلتة وثالثة تبحث عن خصوصياتها ولا تريد الاندراج والاندماج تحت مظلة الامة العراقية.
رؤيتان متقابلتان لكل منهما حجاجها وبراهينها ووثائقها، والمسافة التي تفصل بينهما هي المسافة بين الاماني والواقع. فواقعنا لا يشي باننا أمة لديها روح ومزاج وارادة مشتركة كما هي بقية الامم، بينما يجادل اخرون بان الحديث عن كيان عراقي سياسي مصطنع كما تروج لذلك المدرسة البريطانية  لا يعدو ان يكون نظرة مجتزأة للتاريخ السياسي العراقي وان العراق بحدوده الطبيعية (قبل حدوده السياسية) اشتمل على وجود سكاني متنوع لكنه استطاع ان يوحدها ويقولبها بما جعل هذه البقعة الجغرافية جاذبة للهجرات، مثيرة للطموحات، لا تقل قيمة حضارية وستراتيجية عن نظيرتها في الحضارة (مصر)، لكن طبيعة الموقع الجغرافي  صان خصوصية مصر ووحدتها البشرية بما قيض لها ان يكون لـ (عبقرية المكان) تأثير حاسم في شخصيتها وشخصية مواطنيها، كما اخبرنا بذلك الراحل المبدع جمال حمدان
(1993-1928).
نحن بحاجة اذن الى من يبرهن على اننا امة لها خصوصية ومشاعر متفردة اولا، ثم نخطو باتجاه سبل تحريك وتحفيز روح الامة ونفسيتها التي تبدو ثاوية وربما نائمة ومكبوتة بفعل ما تراكم فوقها من مفاعيل الاستلاب والتعرية والتآكل الحضاري، هذه الجهود تحتاج من النخبة العراقية ان تشمر عن ساعد الجد، فنحن في مفترق طرق حاسم، ان نكون او لا نكون، والدراسات التي تحيي روح الامم وتنفخ فيها روح الفعل الحضاري هي اهم تلك الجهود في ساعة التحدي، شريطة ان تنجو من التحيز الايديولوجي واشتراطات السلطة الشمولية، فنحن في طريق بناء دولة الامة وليس بناء امة الدولة، وان كانت السلطة والدولة فاعلة في صيرورة وبناء الامم .