حاجتنا الى نخبة حضارية

الثانية والثالثة 2020/07/07
...

محمد عبد الجبار الشبوط
 
يواجه العراق، منذ سقوط النظام الدكتاتوري المتخلف، مفترق طرق حضاريا مصيريا: إما إعادة إنتاج التخلف، أو بناء الدولة الحضارية الحديثة.
وأنا إنما أطلق على النظام الصدامي وصف "المتخلف"، لأنه فاقد لجميع مقومات الدولة الحضارية الحديثة. يكفيه أن يكون نظاما دكتاتوريا قائما على أساس عبادة الشخصية cult of personality التي تعرّف بأنها  "التمادي والتملق المفرط لرأس الدولة في النظام الشمولي، ويمكن أن تنطبق على أي شخص يستفيد من قوة اللوبي الإعلامي أو يديره بنفسه. يتم الحفاظ على عبادة الشخصية عبر مختلف وسائل الدعاية (البروباغندا)، ويتطلب ذلك خصوصا، استخدام وسائل الإعلام والتواصل على نطاق واسع، واستخدام التظاهرات والمسيرات عفوية كانت أم لا. وينطبق هذا التعريف تمام الانطباق على نظام صدام الذي قلد بل استنسخ نظام كيم ايل سونغ (الجد) في كوريا الشمالية، وستالين في الاتحاد السوفياتي، وتشاوتشيسكو في رومانيا. 
وعبادة الشخصية نمط حكم يعود الى مرحلة ما قبل الدولة الحضارية الحديثة، حين كان الملوك والحكام يحكمون باسم نظرية التفويض الإلهي التي وجدناها في الدول الموغلة بالقدم. وحينما قام صدام حسين، العلماني ادعاءً والتقدمي زوراً، بفرض النظام الشمولي الاحادي الدكتاتوري، فإنه سحب العراق الى الدرك الاسفل في سلم التخلف الحضاري، ولهذا كان التحدي الاكبر الذي يواجه العراقيين هو اعادة بناء الدولة العراقية على اسس حضارية حديثة، التي منها: المواطنة والديمقراطية وحكم القانون والمؤسسات والعلم الحديث. وكان من شأن الأخذ بهذه الأسس أن تقوم الدولة الحضارية الحديثة التي تضمن افضل تفاعل واستثمار لمكونات المركب الحضاري المنتج لسعادة الانسان في اطار منظومة القيم الحافة به المتبناة من قبل المجتمع العراقي.
لكن بناء هذه الدولة يحتاج، من بين امور اخرى، الى نخبة حضارية حديثة مفارقة في ثقافتها ووعيها وارادتها وممارستها للتخلف. وبدون الدخول في السجال الذي يعرفه علم الاجتماع السياسي في ما يتعلق ببحث معنى النخبة او الصفوة، فانني اكتفي بالمصطلح الذي صاغه ارنولد توينبي وهو "الاقلية المبدعة"، وهي ذلك العدد القليل من الافراد الذين يخلقون الاستجابة السليمة لحالة الانحطاط الحضاري التي تحل بمجتمعهم، بما يملكون من قابليات فردية على الخلق والابداع والتطوير والتأثير في المجتمع و "زرع بذور النهضة"، كما يقول محمد باقر الصدر، واخيرا انجاز التغيير الاجتماعي-الثقافي-السياسي المنتج للدولة الحضارية الحديثة. وانما تملك هذه الاقلية المبدعة جميع هذه الملكات نتيجة ما يبذله افرادها من جهد شخصي على التعلم والتثقف وامتلاك المعرفة السليمة بالهندسة السياسية، اي علم بناء الدولة، وبالصورة المستقبلية التي يقومون ببنائها نظريا عن الدولة الحضارية الحديثة، وبإيمانهم بامكانية اقامة هذه الدولة، وبقدرتهم على القيام بذلك، واخيرا بوجود الارادة القوية المقترنة بالعمل الجاد صوب هذا الهدف. وهذا كله ينطبق على الافراد المتميزين الذين قادوا الثورات التحررية والتقدمية والحضارية على امتداد التاريخ، بما في ذلك الثورة الانگليزية والثورة الفرنسية والثورة الاميركية والثورة الايرانية وغيرها. 
حينما سقط النظام الصدامي المتخلف، لم تكن هذه الاقلية المبدعة أو النخبة الحضارية متوفرة في المسرح بشكل فاعل وقادر على اقامة الدولة الحضارية الحديثة، فاستبدلت المواطنة بالمكونات، والديمقراطية بالاوليجارشية، وغلب الفساد على المؤسسات الناشئة مثل مجالس المحافظات، وفقد القانون سلطته، ولم يصبح العلم الحديث قاعدة بناء الدولة. 
وصحيح أن مطالبات عديدة بالاصلاح ظهرت على الساحة، بما فيها التظاهرات الاحتجاجية، وخطب المرجعية، وبعض الاجراءات الحكومية، إلا أنها كلها كانت خارج السياق والمطلوب، وهو فقدان النخبة الحضارية، ولهذا لم تفلح هذه المحاولات في تحقيق المطلوب، الامر الذي اكد الحاجة الماسة الى انبثاق النخبة الحضارية، أو الاقلية المبدعة، القادرة على حمل مشروع بناء الدولة الحضارية الحديثة والسير بالمجتمع العراقي صوبها.
 من يريد الإصلاح مخلصا عليه أن يبدأ ببناء النخبة الحضارية إذاً، لكي لا يضيع الوقت والجهد في مشاريع إلهاء لا تنفع! .