باسل خلف *
لمطار بغداد هيبة حين دخوله للمرة الأولى، كيف لا يحدث ذلك، وهو المطار الذي كانت فيه أشد المعارك قبل الاحتلال الأمريكي للعراق. في تلك الأيام كنت في بداية شبابي، متابعاً للأخبار غير السارة القادمة من هناك.
تدور الأيام وبعد 21 عاماً تحط قدماي في هذا المطار، لأجد استقبالاً من مسؤول رفيع المستوى في قسم التشريفات يحيط به مرافقون، كانوا حرفياً على باب الطائرة.
وصلت للعراق بدعوة من مكتب رئيس مجلس الوزراء ونقابة الصحافيين العراقيين، للحديث عن تجربتي في تغطية الحرب على غزة، مع مجموعة من المناصرين والمؤثرين الداعمين للقضية الفلسطينية. في المطار ملاحظتان أساسيتان، ازدحام سببه القادمون للمشاركة في أربعينية الحسين من دول عدة، والثانية النظام والترتيب، الذي رأيته بعيني لافتاً وفق توقعاتي.
في الطريق إلى فندق الرشيد مقر إقامتي المؤقت كما فهمت من الجهة المنظمة، رأيت شوارع جميلة، معبدة حديثاً على ما يبدو، رافقتني في الطريق شابة تعمل مترجمة في مكتب الإعلام التابع لمجلس الوزراء، شرحت لي بعض المعالم المهمة في طريقنا من بينها بعض الجامعات، وسألتها وهي الشابة العشرينية عن الوضع في بغداد، فقالت إنها تنقلت مع عائلتها بين عدة دول، لكن الأوضاع الحالية في العراق دفعت عائلتها وعائلات أخرى للعودة للبلد، الذي سأعرف لاحقاً أنه حقق نسباً لا بأس بها في منسوب الأمن والاستقرار.
وصلت لفندق الرشيد في المنطقة الخضراء، على مدخلها حراسات وحواجز أمنية، وفي الداخل فندق معروف بالنسبة لي، وهو الذي كان يتردد اسمه في نشرات الأخبار أيام الحرب على العراق، واكتسب شهرته حينما قصفه الأمريكان عام 1993.
نافذة غرفتي تطل على المدينة، مقر وزارة الخارجية العراقية، ومبانٍ سكنية ليست حديثة البناء، لكنها في غاية الروعة.
في الحقيقة عرفت أثناء تنقلي في الفندق أن مقر السفارة البريطانية، بداخله وسفارات عربية وأوروبية أخرى، نوع من الرسمية يطغى على المكان، لكنني كنت شغوفاً بالتعرف عليه وعلى مرافقه وهذا ما حدث. في اليوم الأول من الزيارة التي امتدت ثلاثة أيام، قابلت زملائي في التلفزيون العربي، عملت معهم منذ 10 سنوات، ولم ألتق معظمهم مرة واحدة من قبل، لقاء ودود عبروا فيها عن حبهم، وعكسوا لي كرم بلادهم وأصالتهم. سبب الزيارة مؤتمر للمؤثرين العرب في منصات التواصل الاجتماعي لحشد مزيد من الدعم للقضية الفلسطينية والتضامن متعدد الأشكال مع غزة وأهلها، ولأنني شاركت في تغطية الحرب على مدار 202 يوم، وكنت المراسل الصحفي الوحيد المدعو للمؤتمر، تحدثت عن المنطقة التي جئت منها، وما رأيته خلال التغطية. لقد كان يوماً ممتلئا بالتعرف إلى جمع من النخب العراقية الرسمية، جميعهم بلا استثناء لم يتوقف عن الإشادة بأهل غزة وفلسطين، وعن الدعاء لهم، وعن سبل التضامن معهم لوقف العدوان. تجولت في شارع المتنبي في الليلة الثانية لوصولي للعراق، مشيت فيه أيضاً في صباح اليوم التالي، حالة من الهدوء غير المعتادة في الشارع الذي يضج بالحياة، مكتباته، مقاهيه، كل شيء فيه له تاريخ، زقاقه تعج برائحة الكتب وألوان الرسامين، وكل بناية كتب عليها نبض بغداد، الذي عرفت لاحقاً أنه مشروع لترميم المناطق الأثرية والحفاظ عليها.
في واحدة من الليالي جمعتنا نقابة الصحافيين في أحد قصور صدام السابقة، تحول المكان إلى استراحة للمواطنين، على ضفاف نهر دجلة. سحرني نهر دجلة الذي رأيت فيه تاريخ بلد عريق، يود الحياة والعيش بكرامة. تبدلت رائحة البارود برائحة الاسمنت والبناء في بغداد، تجولت فيما أتيح من وقت في منطقة الجادرية ومشاريع البناء تراها في كل ناحية، الكرّادة الجميلة، الكاظمية، كورنيش دجلة، شارع المنصور. طلبت من الزملاء زيارة ساحة الفردوس، حيث كان تمثال صدام، المكان يعج بالحياة الآن، والإنارة، وفي الطريق مررت بفندق فلسطين، الذي كان واحداً من أهم مقرات الصحفيين فترة الحرب الأمريكية على العراق، وبساحة التحرير الشهيرة. على هامش لقاء مع القناة العراقية تجولت داخل مدينة الإعلام الرسمية، في المكان مقر صوت بغداد، وهي البلد التي تقول المصادر إنها أصدرت صحيفة باللغة العربية عام 1816
ميلادية.
تريد بغداد أن تقول لزائريها، ما عدت بذلك الثوب المضرج بالدماء، أنا هنا أتزين بوصفي مدينة يضرب تاريخها في أعماق المنطقة. تحتاج بغداد لنهضة اقتصادية أوسع، وفتح بابها للسياح من العالم، وإشراك الشباب في المشروعات كافة.
في مقابلة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بقصره في المنطقة الخضراء، شاركت بمداخلة قصيرة عن دور العراق في رفض التطبيع مع الاحتلال، وأهمية دوره الرسمي في الضغط على الاحتلال الإسرائيلي، لوقف الحرب ورفع الحصار وإعادة الإعمار وإغاثة الناس في غزة، وكان من الرجل اهتمام لافت بما قلت.
ثمة أمر لا يفوتني؛ احتككت بزملاء عراقيين في المؤسسة التي أعمل بها وهم أعزاء، لكنني في الحقيقة غرقت بكرم الطاقم الشبابي، الذي استقبلنا في هذه الأيام الثلاثة، لقد كانوا مثالاً للعراقي الأصيل الكريم، ابن البلد الذي دعم فلسطين، لم يغب عنهم شيء، هي الأصالة إذن وكرم
الضيافة.
* مراسل التلفزيون العربي بغزة