سوسن الجزراوي
أن تفعل ما تريد! فهذا جزء صغير من الحرية، أما ألّا تفعل ما لا تريد، فتلك هي الحرية الأوسع. تحت هذا المفهوم، لخّص الكاتب والفيلسوف السويسري جان جاك روسو، معضلة (السلوك الإنساني غير المقيد) بشكل بعيد عن التقليدية، عابراً لخطوط العرض والطول، مخترقاً الكثير من المفاهيم البالية، التي ألقت بمرساتها قرب شواطئ الإدراك الحسي المتواضع.
ومع اندلاع الثورة الانكليزية بين 1642 وحتى 1660، بحجة ارساء حرية الفكر وإعلانه أمام الطغيان، أدرك الإنسان وبمرور السنوات وتوالي الثورات ( الامريكية والفرنسية والعرابية والمهدية والعربية والروسية )، أن أهم المحركات وأبرز الدوافع لاندلاعها، هي الدين والمال والسلطة! فمهما تغيرت أشكال تلك الحروب الطاحنة، وأيا كانت الاسلحة المستخدمة، وكيفما انتهت، سواء بانتصاراتها أو بخسائرها البشرية ومآسيها الانسانية، يبقى شعارها المعلن مرة، والدفين مرات، كما قلت: اللهاث وراء الانتفاع المادي واستثمار جرح الناس حتى تتحقق أهدافهم، وإظهار العضلات عبر تسويق المفاهيم الدينية بقوالبها الجامدة، على أنها أساس الحياة ومرتكزها، إضافة إلى إعلان فلان وفلان وفلان، حكاماً بصولجانات مزخرفة مرصعة بالغالي والثمين، حتى لو كان الانسان هو الضحية الاكبر! أما أكذوبة ( الحرية) فهذه حكاية لوحدها. !
قد يعتقد الكثير وخاصة الجيل الشاب، بل وربما حتى بعض من تقدم به العمر، ان التصرف المتهور غير العقلاني، فاقد الأهلية! إنما هو (الحرية)! والحقيقة الدامغة، أنه عبث ولا علاقة له بالحرية، لأنها تختلف عنه، كونها مسؤولية! نعم الحرية مسؤولية، أن تكون حراً، يعني أنك مسؤول عن تصرفاتك، وبالتالي وجب أن تكون تلك (التصرفات) جميلة حتى لا تصطدم بالمنتقدين والرافضين.. كما يجب ألّا ننسى أن الحرية بمفهومها الرصين، لا تعني إطلاقاً الانفلات والتحرر والسب والشتم، وانتهاك خصوصيات الآخر، ولا تعني أيضاً إباحة المحظور والابتذال بالسلوك والشكل تحت ذريعة (أنا حر)! فالبون شاسع ما بين الانفلات الأخلاقي و(الحرية).
وبما ان الفكر السليم والرصين هو واحد من أعمدة الحياة الناجحة، إن الجهل هو ألد أعداء ذلك النجاح، وهو الرديف الأكبر للعبودية والاستسلام للقيود، فالجاهل لا يدرك كينونة الحرية، ولا يتقن فن التعامل مع التحليق بعيدا عن سياط السيد، لأن مفاتيح افكاره مختومة بالشمع الأحمر، ومساحات حلمه متلاشية تحت وطأة الطغيان، الذي ارتضاه دون أن يتحرر من سجّانه.
ولان التخلص من القيود، هو فعل كامل، صارت قضية السعي لجعله فعلاً متميزاً هي أكثر ما يشغل أولئك الباحثون عن الحرية والمصممون على نيلها، فهي ليست تلك التفاحة، التي سقطت على رأس نيوتن وصرخ قائلاً: وجدتها وجدتها! إنما هي مثل الماس والمعادن النفيسة القابعة تحت الصخور وبين الكهوف، تحتاج إلى من ينقّب عنها، ليكون بطلاً أفلح في سبر أغوار العتمة كي يشق لنا ممرا إلى النور.
كما أنها الحلم الذي يتحقق بإرادة شجاعة تنتزعه من براثن الفساد وكمّاشة التسلط الاعمى، الذي فقد بوصلته في زحمة البحث عن قيود جديدة، يدق أساساتها حول أجساد من يرتضي ان يكون أسيراً.
وانطلاقاً من المبادئ الاساسية، التي يجب أن تكون الركيزة الاساسية في العالم بأسره، وهي التعليم والمعرفة والثقافة، يأتي وجود (الحرية)، بل إنها تولد من رحم هذا الهرم المتين، فالحرية لا وجود لها بين أروقة الخرافة والدجل، اذ انها تختنق اذا ما بقيت هناك، وقوتها مرهونة بمقدار وعي اصحابها والمؤمنين بها، وحيث ينتهي الجهل تولد الحرية، إنها الأساس الثابت الذي يرتكز عليه نهوض الامة.