الجيل الجديد أثمن رأسمال بشري

ثقافة 2024/09/04
...

  د. عبد الجبار الرفاعي

فشل كثير من الآباء في فهم عالم الأبناء واحتياجاتهم وأحلامهم ورؤيتهم للعالَم، يعجزهم عن التصالح معهم والعيش بسلام. وهذا نوع من الفشل يجعل بعض الآباء يعيشون أقسى أنواع الاغتراب بعد الاغتراب الوجودي، وربما ينتهي بهم الحال إلى أن الأب لا يعرف لغة الأبناء وهم لا يعرفون لغته، هو لا يعرف احتياجات الأبناء وهم لا يعرفون احتياجاته، هو لا يحبّ ما يحبون وهم لا يحبون ما يحبه، هم لا يفرحون بما يفرح به وهو لا يفرح بما يفرحون، هم لا يقرؤون ما يقرأ وهو لا يقرأ ما يقرؤون، هم لا يخافون مما يخاف وهو لا يخاف مما يخافون، هم لا يرجون ما يرجو وهو لا يرجو ما يرجون. الأبناء يشبهون زمانهم، ولا يشبهون زمان الآباء.
 الفجوة بين جيلنا وجيل آبائنا ضيقة، الفجوة بين جيلنا وجيل أبنائنا واسعة بسعة العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي، وإيقاع التغيير المتسارع الذي يطال كلَّ شيء. ‏يختلف الأبناء في العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي عن الآباء في: الرؤية للعالم، ونمط العيش، وطرائق التعاطي مع الواقع، وإدارة العلاقات الاجتماعية، وتفسير القيم، وكيفيَّة تلقي المعارف والعلوم، ووسائل التثقيف، وتعريف الواقع واكتشافه. لم تكن مثلُ هذه الفجوة الشاسعة بين جيلنا وجيل آبائنا، وهذا يفرض على الآباء اليوم الكفّ عن إنتاج نسخ مشابهة لهم من أبنائهم. وذلك يدعونا إلى النظر بعمق لواقعنا، ومتطلباته التربويَّة والأخلاقيَّة والروحيَّة والجماليَّة والمعرفيَّة اليوم. ‏الجيل الجديد أثمن رأسمال بشري في بلادنا للحاضر والمستقبل، ينبغي أن يحرص الآباء على "تكامل الأجيال" وتراكم وإثراء تجاربها وتكريسها، جيل الآباء ينبغي أن يسمح للأبناء بالحضور في مواقع متقدمة في السلطة السياسيَّة، ويمنحهم الآباء الثقة لإدارة الحياة الاجتماعيَّة والثقافيَّة والإعلاميَّة والأدبيَّة والفنيَّة.
بعض الأبناء اليوم يتعاملون مع الآباء على أنّهم ورّطوهم في الحياة، كما يُصارحني بعض الأبناء، وأظن أنَّ آخرين يكتمون قناعتهم هذه تأدُبًا. لا يقبل ‏الأبناءُ أعرافنا وعاداتنا في التربية التقليديَّة، المبنية على الطاعة المطلقة للأب والانقياد والخضوع إليه بكلِّ شيء، والاستجابة لكل ما يطلبه ‏منهم، حتى لو كان ‏غير مقنع للولد، أو كان على الضدّ من إرادته ومصالحه الآنيَّة والمستقبليَّة. وأحيانا يفرض الأب على الابن الرضوخ إليه واستعباده، وربما يتمادى بعض الآباء فيتعامل مع ولده ‏وكأنه شيء يمتلكه كما يمتلك أيَّ شيء، كما كان يتعامل كثيرٌ من الآباء مع الأبناء، وكأنّهم رقيق مستَعبدون قبل ‏نصف القرن الماضي، خاصة في الأرياف والبادية.
  علاقاتي الاجتماعيَّة واسعة متنوعة، وأحيانا متضادّة. لديّ أصدقاء من جيلي ومن أجيال أخرى: مسلمين وغير مسلمين، مؤمنين وغير مؤمنين، عقلانيين وخرافيين. أجمل صداقاتي مع من تتفاعل كيمياء روحه مع روحي، ويقترب مزاجه من مزاجي، ويثير أسئلة مشاغبة لم أفكّر بها. صداقاتي الأثرى كانت وما زالت مع الشباب الذين أرى أجمل صورة للغد في أحلامهم. جذوة الشباب تلهمني أكثر من حكمة الشيوخ. يصعب القول بوجود صديق يختصر كلَّ الأصدقاء، كلُّ صديق صدوق يلهمنا على شاكلته، كذلك يصعب القول بوجود كتاب يختصر كلَّ الكتب.
أنموذجي في المستقبل وليس في الماضي. غيرُ متحمّس للقاء أحد في الماضي، لأنّي عشت في التراث حياتي الماضية، وتعرفت بشكل جيد على أديانه وفرقه ومذاهبه ومعتقداته وثقافاته وشخصياته. أتمنى أن أرى إنسان الغد، الإنسان في القرن المقبل الميلادي. كيف يفكر هذا الإنسان، كيف يرى العالم، كيف يعمل، كيف يعيش، كيف يتحدّث، كيف يحلم، كيف يرى أسلافَه نحن، كيف ينظر لمنجزات الأسلاف ومعتقداتهم وثقافاتهم وآدابهم وفنونهم، ما الذي يفعله الذكاء الاصطناعي منذ اليوم إلى نهاية هذا القرن، لو استمرت الحياة بلا حروب كونيَّة وأوبئة وكوارث تقضي على كلِّ شيء؟.
   على الرغم من كل النقد الذي صوّبه الفلاسفةُ للعقل، منذ نيتشه، وجماعة معهد العلوم الاجتماعية في فرانكفورت، ومفكّري ما بعد الحداثة في الغرب، فإن العقلَ الحديث يمتلك قدرةً بالتغلب على عوائقه ومعالجة مشكلاته العلميَّة. العقل الحديث يضيءُ لنا كلَّ يوم أفقًا في العلم ومجالات المعرفة المختلفة، لينتقل بنا من الخطأ إلى الصواب، ومن ظلام الجهل إلى نور العلم. ميزة العقل الحديث تكمن في أنّه يمتلك شجاعة فذّة في مراجعة ذاته ومناهجه وأدواته ورؤاه ومفاهيمه ونقدها بشدة، وتمحيص ما يقوله على الدوام. صيرورة التاريخ ومعادلات التغيير تبدّلت، بعد أن دخلت التقنيات الجديدة للجينات والاتصالات والذكاء الاصطناعي والنانو، بوصفها عوامل حاسمة في معادلات التغيير. من يعاند صيرورة التاريخ تعانده وتقضي عليه في خاتمة المطاف.
 القيم شيء، والعقل والعلم شيءٌ آخر. لم يمنع التطورُ العلمي الغربَ من استعمال المعايير المزدوجة في التعامل مع الآخر، وهذه أكبر التحديات التي تواجه حضارته. إنسانيّة الإنسان تتجلى بالحضور الفاعل للقيم الأخلاقيَّة والروحيَّة والجماليَّة في حياته، كلُّ حضارة تتصدّع فيها هذه القيم تتصدّع. التقنيات الجديدة على الرغم من أنّها تقدّم للإنسان فرصة استثنائيَّة، هي تحدٍّ قد يؤدي إلى تصدّع القيم والتلاعب في معاييرها الكونيَّة، وربما تفضي هندسة الجينات إلى إنتاج نسخة عبقريَّة عملاقة من الإنسان تتفوق علينا بقدرات استثنائيَّة، وربما ينتهي الذكاء الاصطناعي إلى تغيير أنماط العلاقات في الأسرة والمجتمع، ونظم إدارة المؤسسات والحكومات والعلاقات الدوليَّة بشكل جذري. وذلك يفرض على الإنسان، بموازاة تدفق التطور العلمي كالشلال، السعيَ من أجل إيقاظ القيم الكونيَّة وتنميتها وإثرائها بتشريعات أمميَّة ومحليَّة صارمة.
 التربية السليمة تعتمد الحصانةَ لا المنع، الأبناء ينتمون إلى عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، يتعذر علينا إرجاع الزمن للوراء والهجرة العكسيَّة من زماننا إلى الماضي مهما فعلنا. كنتُ لا أمنع أولادي من اللعب في الشارع والاندماج بجيلهم، والتعرّف على الواقع ميدانيًا. أساعدهم على اكتشاف ذواتهم، والتنقيب في خرائط دروب الحياة المتشعّبة بأنفسهم، لئلا يعيشوا مغتربين عن عصرهم وجيلهم. أرشدهم، وأراقب سلوكهم من بعيد، ولا أتدخل كثيرًا في حياتهم الخاصة وخصوصياتهم. حرصت على أن يكون أولادي كما هم لا كما أنا، كلٌّ منهم يشبه ذاته، ما أكرهتهم على محاكاتي، ولم أحثّهم يومًا على استنساخ صورتي. تطورت شخصياتهم في سياق طبيعتهم البشريَّة وبنيتهم النفسيَّة وزمانهم، فصاروا يعبرون عن ذواتهم ورؤيتهم للعالَم وأحلامهم قبل تعبيرهم عني ورؤيتي للعالَم وأحلامي، وهذا سرّ النجاح في حياتهم.
كلّما تقدّم عمر الإنسان اشتدّت حاجتُه للحُبّ والرعاية، الجسد السليم بتقدّم العمر يدبّ الوهن بالتدريج في أعضائه، وأشدّ ما يوجعه تضخّم شبح الموت. لحُبّ الأبناء للآباء، والتعبير عن هذا الحُبّ بمواقف وفاء نبيلة، تأثيرٌ فاعل لمقاومة الذهول وضياع الأجوبة حيال الموت، وإفاضة شعور على الإنسان بتخليده وحضوره الأبدي بضمير المحب، وخفض وطأة شبح الموت، بصيرورته، في ضمير المؤمن، طورًا وجوديًا تتسامى فيه الروح وتخلد في عالَم الأنوار. الإنسان هو الكائن الوحيد في العالم المولع بالخلود، مثلّما يكرّس الإيمانُ شعورَ الإنسان بالخلود يكرّس الحُبّ الشعورَ بالأبديَّة. الحُبّ يُغذّي ويشبع شيئًا من الحاجة للخلود، مثلما يفعل ذلك الدين، والفن، وأعمال الخير النبيلة المهداة لتحرير الآخرين من الفقر والشقاء والبؤس والاضطهاد. كلٌّ منها يشبع بُعدًا من أبعاد هذه الحاجة على شاكلته، الدين يشبع الحاجة للخلود عبر الإيمان بطور وجودي يخلد فيه الإنسانُ بعد الموت، الفن يشبع الحاجةَ للخلود عبر تخليد الذكريات، الأعمال الخيريَّة النبيلة تشبع شيئًا من الحاجة للخلود بالشعور ببقاء أثرٍ ناطق في الحياة للفعل، وبصمةٍ مضيئة تتحدث عن الفاعل، الحبّ يشبع شيئًا من الحاجة للخلود بوصفه وسيلة لمقاومة قلق الموت.