لماذا نقرأ الروايات؟

ثقافة 2024/09/09
...

  باقر صاحب

مع ما أطلق عليها من مسميات تناسب مكانتها الأدبيَّة الآن، مثل "فن العصر"، على سبيل المثال، لا الحصر، إلا أنه مازال هناك جدل يثار بشأن الرواية، من أن قراءتها مضيعة للوقت، ومن أنها ملاذ ترفيهيٌّ للهروب من الواقع، ومن هنا يتجدد التساؤل؛ لماذا نقرأ الروايات.

هناك الكثير من الأفكار بشأن قراءة الرواية، تدحض أنها وسيلة للترفيه، في الوقت الحاضر. 

القارئ المعاصر، أيُّ قارئ، محاطٌ بوسائل الترفيه الرقميّة، محرّك البحث غوغل الذي جعل العالم قريةً صغيرة، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت أكبر الملهيات لمئات الملايين من البشر، ما أفقد الرواية على الإقناع بأنّها جالبةٌ للترفيه الآن، أو السبيل الأوحد لذلك، كما أنّه بالضدّ من التسلية والهروب، هناك الكثرة من الروايات مؤلمة، قد تصيبنا بعدوى أجوائها ونهاياتها الكئيبة.

ويمكن لفت النظر إلى نقطةٍ مهمّة، وهي.. إذا كانت الرواية تُقرأ للتسلية، في هذا العصر المُمَيّز بأسرع وسائل التسلية وأخطرها، كما أسلفنا، فهنا تحدي الرواية الآن. بعبارةٍ أخرى، أن تُقرأ الرواية للتسلية في عصر التسليات الرقمي، فهذا يُعدُّ مكسباً للرواية، بالضدّ من النّيل منها. 

وهناك ثمّةَ فرقٌ بين أن تكون الرواية إلهاءً أو هروباً، كما تُتّهم من قبل من يعتبرون قراءتها مضيعةً للوقت، وبين تحفيز خيال القارئ، وتغيير وعيه بالعالم، لجهة الأفكار المتدفّقة من متون الروايات التي يقرؤها.

وكشف باحثون في جامعة تورنتو الكندية بأنَّ الذين يقرؤون القصص الخيالية تكون لديهم القدرة على فهم معتقدات وطرق تفكير ورغبات المحيطين بهم بالمقارنة مع غيرهم.

 ويمكن أن تؤدي قراءة الروايات إلى زيادة التعاطف مع الآخرين في واقع الأمر - كما يقول هؤلاء الباحثون- وتساعدنا على تعزيز المهارات الاجتماعية، وفي هذا السياق يكتب الروائي اللبناني فوزي ذيبان في مقالة منشورةٍ له في جريدة "المدن" الالكترونية" ثمة روايات تستنفر ما بداخلنا من شياطين، فنبكي ونضحك، أو ربّما نرمي الرواية في سلّة المهملات. تراني مرة أجهش بالبكاء لدى تكلّم خالد الحسيني في "عدّاء الطائرة الورقيَّة" عن تقافز الأولاد وركضهم خلف الطائرات الورقيَّة، وقد رسمني هذا الروائي الرائع عبر أولاد روايته بما فاق توقعاتي كمتلقٍّ لهذا العمل الجميل وأعادني بلحظةٍ إلى فترةٍ من عمري".

كما أثبتت دراساتٌ حديثةٌ، بأنّ القراءة لمدة 6 دقائق فقط تساعد على تخفيض معدلات دقّات القلب وإراحة العضلات والتقليل من نسبة التوتر، حيث يعاني الكثيرون بصمتٍ من حالات العصاب بشكل دوريٍّ ومتكررٍ كلّ يوم، هذا يعني خلق حالةٍ من الاسترخاء المُطلق، والإبحار في العالم، الذي سبر غوره خيال المؤلف، الذي لا تحدّه حدود. 

وهناك من الروائيين المعاصرين، من أجابوا عن السؤال أعلاه، في ندواتٍ ومحاضرات، ومنهم الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 2006، الروائي التركي أورهان باموق، فقد أشار إلى التجاذب المدهش مع عوالم الروايات التي نقرأها، فيقول "عندما نقرأ الروايات نتأثر أحياناً بقوة الطبيعة الخارقة للأشياء التي تصادفنا والتي تجعلنا ننسى أين نحن ونتصوّر أنفسنا في وسط الأحداث الخالية والشخصيات التي نشاهدها. في مثل هذه اللحظات، نشعر بأنّ عالم الرواية الذي نلتقي ونستمتع به هو أكثر واقعيةً من الواقع نفسه". ما أكبر الدهشة، حين تكون الرواية أكثر واقعيّةً من الواقع نفسه، عبر التأثر والتلاحم مع العالم الروائي.

سؤال "لماذا نقرأ الروايات؟" يفتح الأبواب على إجابات لا تُعدُّ ولا تُحصى، وكون الرواية فن العصر، يوسّع مساحات الجدل، بشأن.. لماذا توصف بهذا التوصيف المذكور. ومن تلك الإجابات.. إنّ القارئ الملتذَّ بعالم الرواية تنمو لديه خاصيّة التفكير النقدي، وطرح الأسئلة، بشأن الأحداث الفارقة، في عديد الروايات التي يقرأها، مع سعيه إلى الإجابة عنها، كي تكون قراءاته ذات فائدةٍ محسوسة، مثلاً، في رواية الألماني التشيكي كافكا "المسخ" يتحول البطل إلى صرصار، هل يرمز بذلك إلى الاغتراب في المجتمع الرأسمالي، وهناك الرواية الشهيرة "زوربا اليوناني" لنيكوس كازانتزاكيس، التي قد ينبثق لقارئها تساؤل؛ هل يستطيع أن يتلبّس شخصية بوصفها الشخصية العبثية المتبحّرة في كيفية عيش الحياة؟

كما كتب كثيرون أنّ عديد الروايات بسردها الممتع الغاوي للقراء، تنير مُدركاتهم إزاء مشكلاتٍ عالميّة ملغّمة، مثل الأقليات والتمييز العنصري، اضطهاد النساء في بقاعٍ شاسعةٍ في العالم، أو تدمير الطبيعة. على سبيل المثال، تلك الرواية العظيمة الخالدة "كوخ العم توم" للروائية الأميركية هارييت بيتشر ستو، التي أثارت قضية التمييز العنصري ضد السود من قبل البيض، ما أثّرت في أجيالٍ وأجيالٍ متعاقبة، ورسّخت لديهم فداحة التمييز العنصري، وبأنّه لا إنساني البتّة.  

ومما يدحض أنّ قراءة الروايات مضيعةٌ للوقت، ما يمكن قوله عن تأثّر القراء بمطالعاتهم الروائية، إلى الدرجة، التي يندمجون فيها مع الروايات لجهة أمزجتهم ومشاعرهم، ولجهة التأثر الكبير بمصائر شخصيات روائية مثلاً، يُنقل عن الكاتب الإنكليزي الأيرلندي أوسكار وايلد عن تأثّره المؤلم بموت شخصيةٍ من شخصيات الكاتب الفرنسي أونوريه دي بلزاك: "إنّ موت لوسيان روبامبريه هو أكبر مأساةٍ في حياتي". وهذا الروائي الحائز على جائزة نوبل للآداب 2010 البيروفي ماريو بارغاس يوسا يقول "ثمّة مجموعةٌ من الشخصيات الأدبية أثّرت في حياتي بصورةٍ أكثر بكثيرٍ من كائناتٍ من جلدٍ وعظم عرفتها". 

وقد بلغ التأثر بالشخصيات الروائية ببعض القرّاء إلى إيذاء النفس، على سبيل المثال، رواية "آلام فارتر" للكاتب الألماني يوهان غوته، بتأثيرها في القراء، خاصة الشباب، حيث اندلعت موجةٌ من الانتحارات في صفوفهم تأسياً وتقليداً لبطل القصة. وأطلق عالم الاجتماع دافيد فيليبس سنة 1974 مصطلح "تأثير فرتر" على ظاهرة الانتحار بالتقليد بعد مرور قرنين على الرواية. 

قراءة الروايات تفيد تنشيط ملكة تقمّص شخصياتها، ومن ثم تجعل القارئ يعيش حيوات هذه الشخصيات بالوكالة، أي يستبدل نمطيته الواقعية، بعشرات الشخصيات الافتراضية، ما يغني تجاربه الحياتية على أرض الواقع باكتساب ردود أفعال الشخصيات التي تقمّصها وهي تجابه مشكلاتها التي صاغتها المتون الروائيَّة.  

 وأخيراً.. الروائي المعاصر، اتّجه إلى كتابة الرواية الشاملة، لا يكتفي بالجانب الرومانسي، وإنّما أصبح يستعين بالمراجع التاريخيَّة والهندسيَّة والطبيَّة، فباتت تصدر رواياتٌ معلوماتيّةٌ يتمازج فيها العلم والأدب والتاريخ والروح والمادة، أثبتت ذلك روايات دان براون وغيوم ميسو وغيرهما. القارئ لهذا النوع من الروايات يثري خزينه الثقافي بمعارف وعلومٍ شتّى، فأين مضيعة الوقت من ذلك؟