تضليل العقول والساحة العراقيَّة

آراء 2024/09/10
...

سالم مشكور

تلجأ الأنظمة الشمولية عادة إلى تضليل الوعي من أجل فرض رأيها وسياساتها، عبر عملية تضليل وبرمجة للعقول تجعلها لا تفكر إلّا بما تريد السلطة، فتضليل عقول البشر – حسب المفكر البرازيلي باولو فرير – هو أحد أدوات القهر، التي تمارسها النخبة من أجل تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة. التضليل يعني هنا إطلاق المعلومات الخاطئة ومحاولة ترسيخها في الأذهان على أنها حقائق. النخبة هنا قد تكون سياسية أو اقتصادية أو غيرها. وقد تعني السلطة القائمة منفردة، كما هو حال الأنظمة الشمولية، أو تكون إحدى النخب إلى جانب الأحزاب والمنظمات غير الحكومية السياسية منها أو الاجتماعية أو الاقتصادية وغيرها، كما هو الحال في البلدان ذات الأنظمة الديمقراطية أو غير الفردية.
عملية تضليل العقول تمارسها أية جماعة، لها أهداف معينة تريد تحقيقها، مستفيدة من أجواء الحرية من جهة وتفشي الجهل من جهة أخرى.ما يجري في الساحة العراقية حاليا، هو استخدام تضليل العقول من أكثر من طرف، وعادة ما تحقق أهدافها ولو بنسب متفاوتة، حسب الأساليب المستخدمة. السبب هو حالة الجهل وغياب الوعي، التي توفر أرضا خصبة لتصديق جملة مغالطات وأكاذيب يصدقها جمهور واسع، ويتبناها ويبدأ هو بالترويج لها.خير مثال حي على ما نقول هو الحملة الواسعة التي تشنُّها أوساطٌ معروفة، على مجرد اقتراح تعديل لقانون الأحوال الشخصية، لينسجم مع الدستور، ومع طبيعة المجتمع ومعايير حقوق الإنسان. لا أتحدث هنا عن آراء الأفراد ومواقفهم. فلكل فرد الحق في ما يعتقد ويعارض، ولا يحق لأية جهة فرض قناعات عليه، لكنني أتحدث عن حملة ممنهجة ومنسّقة مدعومة من منظمات خارجية، عبر وكلائها من بعض المنظمات المحلية المرتبطة فكرا و»برامجيا» بها.المجتمع يواجه اليوم جملة أكاذيب ونسبة أمور للتعديل لا وجود لها. يستخدم هؤلاء أسلوب التكرار، من أجل ترسيخ هذه الأوهام في الاذهان وجعلها تبدو حقيقة، متبعين أثر وزير الدعاية النازي غوبلز. لا تقولوا إنها تهم جاهزة. اسألوا: ما الذي كان سفير بريطانيا يفعله في مجلس النواب في اليوم المقرر للقراءة الثانية لمشروع قانون التعديل؟ وماذا دار في اجتماعه مع رئيس مجلس النواب بالإنابة قبل الجلسة؟ اقرؤوا تغريدات عدد من السفراء الأجانب في بغداد واسألوا أنفسكم: كيف يحق لسفير دولة أجنبية أن يتدخل في شأن داخلي لدولة أخرى بهذا الشكل السّافر؟ في الولايات المتحدة يجري الحديث منذ سنوات عن فضيحة دعم إلكتروني روسي للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب خلال حملته الانتخابية، وهناك محاكمات واستدعاءات، فيما يحصل مرشحو الانتخابات عندنا على مبالغ علنية من دول أخرى، وسفراء الدول يجولون على المسؤولين، ويتدخلون لدعم هذا السياسي أو تلك المنظمة المشبوهة، دون أي موقف رسمي، بل ودون أي استهجان شعبي، فقد بات الأمر عاديا لكثرة تكراره.النقاشات التي تملأ البرامج الحوارية على الشاشات، ووسائل التواصل، بل وحتى في شوارع العراق وساحاته، تستغرق في تفاصيل لا وجود لها، بل هي مجرد احتمالات وافتراضات تحولت إلى حقيقة لكثرة تكرارها المتعمد، وفي المقابل يبلع مؤيدو التعديل الطعم، وينزلون إلى الرد على هذه التفاصيل المفترضة، وكأنها مسلمات، رغم عدم وجودها في التعديل أساساً. يحقق المعارضون هدفهم في تحشيد الرأي العام والتغطية على أساس التعديل، الذي هو في جوهره ونصه يعطي الخيار للإنسان، لاعتماد القانون الحالي أو اعتماد قانون يدوّن لاحقا ويجري إقراره في البرلمان، بعد مناقشات مطولة، يستمد من الشريعة الإسلامية ووفق كل مذهب، وهذا ما يعمل به في دول عدة مثل ماليزيا والكويت والبحرين.أي هذا التخيير يمثل ذروة الاحترام لحقوق الإنسان وخياراته في تنظيم حياته الشخصية، فيما القانون الحالي يفرض نظاماً كتبته أقلية سياسية، وزادت من سوئه تعديلات قام بها نظام شمولي لأغراض تخدم حكم حزب فاشي، وتدافع عنه الآن أحزاب ومنظمات تعمل تحت يافطة الديمقراطية وحقوق الإنسان. يا لها من مفارقة غريبة!.