جوهر الفعل النقدي
جاسم خلف الياس
لا يختلف اثنان على أن الخطاب النقدي في بداياته المتواضعة تعامل مع المعايير التي تتحكم في الأنشطة اللغوية ولا سيما الشعرية تعاملا جزئيّاً، إذ سعى إلى تقويم المعاني أو كشف الصور البلاغيّة وغيرها، ومن ثمَّ اتسعت دائرته، وكثر الكلام فيه، وتسللت إليه نتائج بحوث علم الجمال والاجتماع والنفس، فضلا عن الفلسفة والتاريخ والأسطورة.
بعدها حدث التغير النوعي في الكشوفات النقديَّة المعاصرة التي عمّقت تمظهراتها بعيداً عن الانغلاق المنهجي الذي يُحيل النص إلى سياق خارجي (تاريخي، نفسي، اجتماعي) وذلك برصد المفاهيم النصيَّة واشتغالاتها للعمل على خلخلة النسق النقدي المساير لخمول المعطيات المسوّرة باجترار الثوابت، والعمل على تشكيل خطاب مغاير، يشتغل بفاعلية في الخصائص العلائقيَّة والتحليل الجمالي في مقاربات تعاين النص الأدبي، وتفيد من المفاهيم الغربيَّة من دون الخضوع لها أو الانبهار بها حدَّ التقديس، وإنما الإفادة منها في قراءة الكتابات الإبداعيَّة بقدر ما تسمح به النصوص المقروءة. وعلى هذا الأساس فالخطاب النقدي بوصفه فاعليَّة قرائيَّة يعدُّ استنطاقاً متغيراً، لا يقف عند بنيته الجماليَّة التي تعكس الواقع بمختلف مستوياته السوسيوتاريخيّة والثقافيّة والنفسيّة، أو عند بنيته المغلقة والقائمة على علاقات اختلافية أو ائتلافية، ولا حتى تفكيك النص وبنائه، وإنّما يتجاوزها ليشكل (فضاءً للانكتاب، يقارب لينفصل، وينفصل ليقارب). وهنا نكون أمام خطاب يمنح القارئ خصوصيّة هتك دائرة اليقينيات والهروب إلى فضاء التأويل كي يتجاوز محدوديَّة القول في ظاهره أو قصديته، والاتجاه نحو التحوّلات في فاعليَّة التأثيث المعرفي لتجسيد دهشة الغياب التي يجدها في وظيفة البحث المستمر والدؤوب من أجل الوصول إلى مفاتن القول وشواغله المتفرّدة تشكيلاً وتدليلاً.
إنَّ الخطاب النقدي بهذه المواصفات الجديدة يتخلّى عن وظائفه التقليديَّة المحصورة في (العلاقات السببيّة) أو (وصاية المعنى)؛ لأنَّ الناقد لا يمثل الوسيط الماكث بين النص والقارئ، وليست كتاباته إبداعاً من الدرجة الثانية، وإنّما النقد محاولة علمية - أو تسعى لأن تكون كذلك- عبر وسائل منضبطة لإدراك العلاقات الكامنة داخل النص والمختفية وراء ظاهرة من أجل الوصول إلى الخصوصيّة التشكيليّة والدلاليّة التي تميزه عن غيره، أي الوصول إلى لؤلؤة المستحيل الفريدة، حسب تعبير حسن بحراوي. وإذا كانت النصوص الإبداعيّة تمارس اللعب باللغة، ونفث السحر في النص، وتأثيث فضاءاته المدهشة بالتجاوز والمغادرة، فإنَّ الخطاب النقدي بوصفه الإبداع الوصفي الذي يوازي الإبداع الإنشائي، يأخذ ميزته السحريَّة من الكشف الجمالي الخاضع لذائقة الناقد وآليّات قراءاته، والمتمثل باللغة والصورة والإيقاع والمفارقة والتناص.. وغيرها، وكل ما يتصل بهذه الاشتراطات الفنيّة من مفاتن النص، وحرائقه، ورموزه، وإشاراته، وعلاماته. والكشف المعرفي المتمثل بالأفكار والمعارف وكل ما يتصل بها من تفسير وتحليل ومحاورة، من أجل كشف الدلالات النصيَّة، وفتح المجال للقارئ كي يتواصل مع النص، ويتذوّقه عبر قراءاته المتعددة. وصولاً إلى التشابكات العلائقيّة والحمولات الدلاليّة التي تنهض على ممكنات المحرّض والمدهش، وتجلّي المخفي وتخصيب دلالاته، وإحضار المغيّب واختباره إجرائيّاً. وكل ذلك يتم في فعل قرائي يشكل نظيراً مدهشاً للفعل الكتابي، منطلقاً من استراتيجية تعلن عن قدرة الناقد، وتهيّؤه لبناء المعنى، وتستجيب للمرتكزات والآليات التي تأتلف من معطيات وسياقات تسهم في فك الشفرات والرموز التي تؤثث النص، وهذه الاستراتيجية ما هي إلّا ممارسة تدليليّة، بإمكانها سلك دروب اللغة المتشابكة، والسيطرة على اتساع دهاليزها، وتمظهر أسرارها الجماليّة، وبلاغة خطاباتها، وتعدد احتمالاتها. وعلى هذا الأساس فالسعي إلى اقتراح خطاب يتشكل في وعي الأسئلة بصورة مغايرة ومستفزة، تتغيّا التفرّد، هو سعي كتابي بمزاج خاص، وغواية تمارس مكوثها في مجسّات وحفريّات التشكيل اللغوي للإبداع الإنشائي مهما كان تجنيسه، وعمقه المتوهّج، بوصفه ممارسة تحتاج في ديناميتها إلى اللعب الترميزي والأسطرة والتعالق والتداخل، وغيرها من التشكيلات الجماليّة عبر اللغة والتكثيف والتوهّج والإشراق والانزياح، وإذا كانت اللغة ميداناً خصباً للتعالق بين الواقع والمتخيل، الممكن والمحال، الوجود والزوال، الشعري والسردي، الحسّي والوجداني، فهي تبتكر رموزها الخاصة، وتجترح القطيعة الذوقيّة في فاعلية الخلق والتغاير، كي تؤسس وعياً تأويليّاً يتجاوز التبليغ أو الإبلاغ، ويستقرئ العلامات وأسرار العتمات التي تتركّب منها، وبهذا الفعل الكتابي يكتب الناقد نصّاً جديداً يوازي نصّ المبدع الأصلي إن لم نقل يتفوق عليه.
ولو تناولنا الشعريّة العربيّة أنموذجا لهذه المقاربة التنظيريّة، منذ المدوّنات التراثيّة وحتى الراهن الشعري، نجدها قد أسست إبداعها على متكئات حافظت عليها في كل تحولاتها وتجاربها، وتحديد ملامح هويتها الإبداعيّة ومن أهمها "الإيقاع، واللغة، والصورة" فضلا عن اشتراطات تقانيَّة يعمد هذا الشاعر أو ذاك إلى توظيفها في إنتاج تلك الشعريَّة؛ لتقديم رؤية، أو فكرة، أو إضفاء جمالية أو تفعيل كيفية ما في إنتاج المعنى، من مثل "تقانة السرد والقناع والحوار والمفارقة والتناص والدراما وغيرها". فالإيقاع الموسيقي منذ الشعر القديم وحتى مرحلة الإحياء كانت تعطى له الأولوية في ترتيب هذه المتكئات، وبعد مرحلة الرومانسيّة، ومرحلة التفعيلة أخذت الصورة الشعريّة تنافس الإيقاع من حيث الأولوية، في مختلف أنماطها "ذهنيّة أو حسيّة، بصريّة أو شميّة أو ذوقيّة، استعاريّة أو تشبيهيّة أو كنائيّة، أحاديّة أو مركّبة أو كليَّة، و.. الخ". وحتى في "قصيدة النثر" التي أسقطت الموسيقى العروضيَّة نهائيّاً، ظلَّ الإيقاع الداخلي يسايرُ اللغة والصورة في تقديم جوهر الفعل الشعري الذي يتوصلُ فيه الشاعر إلى تطويع لغته في انزياحاتها عن مساراتها المألوفة، وهذا الاشتغال الشعري سواء أكان شفافاً أو غامضاً يؤدي بالضرورة إلى الخروج الأسلوبي عن الوتيرة اللغويَّة، فتتجلى الدلالات في فضاء ينسجم مع المنحى الفكري للشاعر بشكل مباشر تارة، وإيحائي ورمزي تارة أخرى. ويبدو أنَّ سياقات الفضاء الخارجي التي احتدمت فيها شعريته، قد تفرض على الشاعر التعويل على لغة تنسجم مع المظاهر المعيشة التي تتشكل منها رؤاه وأفكاره، إذ يرصد التفاصيل التي تصدر عن تلك المظاهر وهي تأتي بتلقائيَّة وانسجام مع السياقات الشعريَّة بصيغها الإيقاعيَّة، وتشكلاتها التركيبة، وتقديمها وتأخيرها، بما يتوافق ومشاعر الشاعر بهدف ترتيب الألفاظ والمعاني في ذهن القارئ، والحصول على الأثر الجمالي، بغية خلق التصادم الإحساسي عند الناقد، والإثارة الإدهاشيَّة. وإذا كان القول الشعري في تحولاته النصيَّة قد أحدث قطيعة ذوقيَّة في التشكيل والتدليل، وأصرّ على رهانات التلقي المغاير، ألا يحتاج ذلك القول إلى فعل نقدي مغاير أيضاً؟
نخلص مما تقدم أن ضرورة إرباك النص وخلخلة معاييره القارَّة وأنساقه الثابتة لا بدَّ أن تسبقها ضرورة إرباك اللغة بفاعلية اللعب أيضا، وعند هاتين الضرورتين يتخذ النقد عند قلّة من ممارسيه ميزته السحريّة والاستثنائيَّة، وعليه، ليس بغريب في واقعنا الكتابي الراهن أن نرى كثيراً من النقاد ينظرون إلى النقد بوصفه نشاطاً إبداعياً يضاف الى الكتابة الإنشائيّة التي تجتهد في الانزياح النوعي، ورؤيتها للعالم، سعياً وراء مطلبها الجمالي عبر اختراق البنيات النصيّة، من أجل التجاوز والمغادرة لكل ما هو تقليدي وساكن. وهكذا يرفع النقد عند أولئك البارعين الذين يشكلون النخبة في الجماعة النقديَّة صوته، ويقول بوعي مسؤول ومدهش: لي فتنتي الخاصة، أغوي بها النص وأهتك سلطته، لا بل أوقعه في شرك القراءة فيخضع لي، وهذا هو جوهر الفعل النقدي.