غبارُ النجوم

ثقافة 2024/10/02
...

أحمد عبد الحسين


لا تكونُ قصَّةٌ ما مؤثّرةً ما لم تكنْ قصّتَك أنت.
الرجلُ الموضوعيّ، العلمويّ، قد يستطيع أن يروي لك قصّةَ الكون منذ الانفجار الكبير إلى السديم الذي شكّل المجرَّات وصولاً إلى تخلّق الأرض وانتهاءً بجلوسك على مقعدك في مقهى وأنت تقرأ هذا المقال. لكنّه يخفق في الوصول إليك ما لم يجعل الحكايةَ حكايتك.

يبحث الإنسانُ عن نفسهِ في كلِّ شيء. وسؤاله لا ينقطع: أين أنا في الكتاب الذي أقرأ والأغنيةِ التي أسمعُ والفيلم الذي أشاهد؟، ولا تحدث التراجيديا الخفيةّ التي تجعلنا مشغولين بأمرٍ ما وشغوفين به، إلّا حين تكون لنا حصّة مؤكدة فيه. حياتنا وحيوات الآخرين ما نفعها إنْ لم نكنْ نحن فيها؟، ألا ترى أنَّ كلَّ جمالٍ نراهُ نحوّله إلى استيهام أو رغبة؟، نفعل ذلك من أجل أن يكون ذلك الجمال جمالنا الخاصّ لا أيّ جمال كيفما اتفق. ألم تلحظ أنَّ مَن نعجبُ بهم من الناس نجعلهم شخوصنا حقيقة، أو رمزاً، وإلا فسيكونون أبطالَ أحلامِ يقظتنا العظيمة.
هذا لأنَّ العالم مرتبط بنا على نحو لا فكاكَ منه. ومن دونك أنت الذي يلعب دور الملاحِظ سيغدو العالم مهجوراً كما كان مهجوراً قبل أن تأتي إليه.
ثمّة أمرٌ تقرره فيزياء الكمّ وهو أنَّ مراقبة ظاهرةٍ معينة تُغيّرُ حتماً من تلك الظاهرة. في تجربة فايزمان الشهيرة “تمرير الضوء في شقّ مزدوج” خلص إلى أنّ المراقبة السلبيَّة، مجرد المراقبة هي التي تجعل النتائج متغيّرة؛ بحيث أنَّ إمكانية تواجد الأجسام الكميَّة بمكانين في آنٍ واحدٍ فُسّرتْ بقدرة العقل الإنسانيّ المراقِب الذي يستطيع تصوّر فكرتين متضادتين في الوقت ذاته.
نحن مؤثرون بالمستحيل لأنَّ كلَّ ما نراه ونسمعه ونتخيله ونتصوره ونقرؤه ليس موضوعيّاً بالكامل فهو لا يحدث خارجاً عنّا في الحقيقة. مكوّنات العالم أجزاءٌ وكسورٌ تُشكّل حكايتنا الخاصة نحن.
صار بديهيّاً اليوم أن أجسامنا مكوّنة من غبار النجوم. لكنّ وعينا وإدراكنا مرتبطانِ على نحوٍ قطعيّ بالمعنى الذي يمسك كلَّ شيء في هذا الوجود ويجعله قابلاً لأنْ يُتعَقّل أو يُتَخّيَّل.
الأعمال التي خُلّدتْ في التاريخ، فنوناً وملاحم وقصائد وكشوفاتٍ عرفانيّة، إنما بقيتْ لأنَّ لكلٍّ منا حصّة فيها. فمَنْ منّا ليست لديه حصّة في كلكامش مثلاً؟، ألا ننهض من فراشنا يوميّاً ونحن أبناء كلكامش؟، طامحون في قرارتنا إلى الخلود ومضروبون في وجوهنا باليأس من بلوغه.

لا يحبُّ الإنسان شيئاً إلا إذا كان شيئاً يخصّه. ولا يخلّدُ عملاً إلا إذا كان له مساسٌ وثيق به. ولا تُروى الحكايات ولا تُقصّ القصص إلا لأنّها قصصنا وحكاياتنا.

وإذا تهيَّأ لك يوماً أنّك في زاوية غير فاعلة من العالم، في الركن الذي لا يأبه له الوجود، وأنّك مجرد مراقِب. فاعلمْ أنّ مراقبتك للعالم هي التي خلقت العالم.