شعريَّة المفارقة

ثقافة 2024/10/02
...

محمد صابر عبيد

تشتغل قصيدة “لقاء” للشاعر يوسف الصائغ على شعريَّة المفارقة، إذ إنَّ اللعبة النصية لا تكشف عن خيوطها إلّا في آخر مفردة من مفردات القصيدة، وهي تمثل البؤرة التي تشع شعرية على فضاء القصيدة بأكمله: “رجل أخرس / وامرأة حسناء.. / يلتقيان… /يتبسم.. / تبتسم المرأة... /يومئ.. /تومئ.. / ينهض.. تتبعه.. /يمشي.. تمشي معه… /حتى يصلا آخر هذي الدنيا.. / يقف الرجل الأخرس، مرتبكاً.. / يتساءل في سره: أما آن لها أن تفهم /أني رجل أخرس؟ /في حين تظل المرأة، قربه، واقفة.. /تتساءل: أما آن له أن يفهم /أني امرأة خرساء”.

تنمو المنظومة الفعلية المهيمنة على مساحة واسعة من المشهد نمواً درامياً متوازناً، وإذا شئنا أن نسلط الضوء على مناطق المنظومة وفعالياتها المرآوية، سنجد أنَّ الفعل “يتبسم” فعل محايد ينطوي على قصدية واضحة، وفي الوقت عينه يضم قصدية خفية اختبارية لمدى استعداد “الآخر” لدخول اللعبة، في حين يحقق الفعل “تبتسم” استجابة ذات قصدية واضحة تعلن دخولها اللعبة، لذا فإن الفعلين “يومئ ـ تومئ” يؤشران تطور مستوى القصيدة التخييلي في حركة الفعل وإيقاعه، وتحميله طاقة دلالية وإشارية أكبر وأكثر قدرة من داخل دائرة اللعبة.
ينتقل النسق الدرامي الفعلي بالفعلين “ينهض- تتبعه” انتقالة جديدة، من محدودية الحركة إلى تفعيلها واتساع مساحة حركتها وتطور مستوى أدائها، إذ إنَّ تلاحق الفعلين “ينهض – تتبعه” ينطوي على استهداف مستقبِل دلالي احتمالي معين، بحيث يقترب الفعلان “يمشي – تمشي معه” من التماثل شكلاً ودلالة وأداء ميدانياً. فالمسافة الحيوية بين الرجل والمرأة بعد أن كانت تنطوي على وجود فاصلة بينية يتمظهر فيها المكان “ينهض – تتبعه”، فإنها هنا تذوب ليصبح أحدهما بإزاء الآخر مباشرة “يمشي – تمشي معه” ليتوج الكرنفال الفعلي بالفعل المشترك “يصلا”.
يجب ملاحظة أنَّ المقاربات التي تتمخض عنها الدلالات الحسية للأفعال، تؤكد حضور الجسد عبر تجلياته العيانية في تعابير الوجه واليد وحركة الجسد كاملاً والقدم، مما يوحي بتشغيل الجسد واستنطاقه، تعويضاً عن فقدان آليّة النطق التي كان من الممكن أن تغني مباشرة عن كل هذا المشهد. وإذا كانت المنظومة الفعلية تقدم بتمظهراتها المتنوعة مشاهد مصورة، يمكن للذهن المبصر أن يتخيل بصرياً الفعاليات الحركية التي تمارسها الأفعال، فإنَّ اختتام المشهد بـ”حتى يصلا.. آخر هذي الدنيا” يفاجئ الاطمئنان إلى ألفة الإحاطة البصرية بالمشهد وذلك بعبارة “آخر هذي الدنيا”، وهي تنتقل بالتصور من واقعية المشهد إلى فانتازيته، ليقطع أفق التوقع بنتائج ملموسة لتطور أفعال المنظومة دراميا. وهذا القطع فضلاً عن كونه إسدالاً للستار على الفضاء الدلالي للمشهد الأول، فإنَّ له وظيفة بنائية تسوّغ للقصيدة مناسبة الانتقال إلى مشهد جديد، ومعالجة الحادثة الشعرية من زوايا أخرى استكمالاً للنظام البنائي العام.
المشهد مؤلف من خمس صور، تنمو نمواً درامياً وصولاً إلى أعلى قمة “آخر هذي الدنيا”، كل الوحدات الفعلية والاسمية المكونة للمشهد تختتم بـ”...” للتدليل على وجود “فراغ” نقص أدائي في نشاطها، باستثناء الجملة الاسمية التي افتتح النص عالمه بها “رجل أخرس”، إذ إنَّ الشخصية هنا وبهذا الوصف الخبري تستكمل بناءها، وبالتالي ليس ثمة داع لوجود فواصل تشي بإضافة ما يكملها لاحقاً، إنَّ الفواصل هنا إشارات تكرس منطق الاحتمال في التأويل، إنها تطرح مشكلة يقترح حلها في مشاهد قابلة للنص.
المشهد الثاني يخضع لانحراف في توجيه الكاميرا، ففي الوقت الذي كان فيه الراوي العليم يصور حالة خارجية في المشهد الأول بآلية سرد وصفية، فإنه هنا يحاول التدخل في العالم الجوانيّ لشخصية الرجل، مصوراً ما يجري فيه من أنشطة وفعاليات، ولعل مما يعطي للكاميرا فرصة أكبر على التصوير بدقة، هو استقرار النشاط الحركي الخارجي “يقف… الرجل الأخرس”. فتقليل حيز الحركة إلى أقصى حد ممكن في عملية الوقوف، ووضع الاستقامة العمودية في الوقوف، يمنح عمليات التصوير مناسبة مثالية لالتقاط المشاهد الجوانية التقاطاً شاملاً، أما الحال النحوي “مرتبكا” فإنه يعبّر بدقة ودلالة عن الحال الشعري، فالارتباط يأتي من إحساس النسق الرجولي في الرجل الأخرس بتفوق النسق الأنثوي في “امرأة – حسناء” عليه. إذ في الوقت الذي تعادل فيه المرأة حسنها بخرسها، ويقنعها هذا التعادل بجدارتها في مجاراته –بافتراض أنه غير أخرس-، فإنه لا ينجح في تحقيق ذلك لوجود خلل كبير في الموازنة.
فهو الأخرس بإزاء امرأة حسناء أولاً، وافتراض أنها غير خرساء ثانياً، لذا فالارتباط استجابة طبيعية لانعدام قدرته على إحلال قدر من التوازن في ترتيب المشهد، وتأتي “في سره” إمعاناً في التستر والإخفاء والانكفاء على الذات، أما حواره الداخلي “-أما آن لها أن تفهم/ أني رجل أخرس” فينتهي بعلامة الاستفهام “؟”، وفيها إشارة إلى نهاية النسق الرجولي في المشهد وفي عموم النص.
فالعلامة هنا إقفال يشير إلى خروج الرجل من اللعبة، بعد أن توافرت له قناعة كاملة بالهزيمة، فغادر المشهد العام للنص وترك للمرأة حرية التمتع بتميزها عليه داخل حدود النص.
المشهد الثالث مشهد مواز للمشهد الثاني، تنتقل فيه الكاميرا من كشف العالم الداخلي للنسق الرجولي الممثل بالرجل، إلى العالم الداخلي للنسق الأنثوي الممثل بالمرأة.
إلا أنَّ المشهد الثالث لا يتوازى تماماً مع سابقه، فصورة وقوف المرأة خالية من الارتباط، وتتساءل من دون العلامة الباطنية اللافتة “في سرها”، فضلاً عن أنَّ المونولوج الداخلي المتسائل لا ينتهي بعلامة استفهام بل بـ”…” دلالة على تلبثها في المشهد وإصرارها على مواصلة اللعبة.
في اختتام القصيدة بـ”امرأة خرساء” تنكشف اللعبة وتحدث المفارقة، وإذا شئنا أن نجعل النسق التركيبي للقصيدة نسقاً دائرياً، فإنَّ جملة “رجل أخرس” التي افتتحت القصيدة بها لعبتها، تختتم بجملة “امرأة خرساء” التي ينتهي بها إيهام الصفة الخبرية الأولى للمرأة “حسناء”، وإذا كان النص ابتدأ بنسق رجولي فإنه ينتهي بنسق أنثوي.
في تحليلنا للبنية السردية العامة المؤلفة للنص الشعري في تشكيله المتخيّل، نجد أنَّ سرّ اللعبة كشفها راو كلي العلم يروي روايته من الخلف، كشفها على لسان شخصية المرأة، لكن السر لم يكشف إلا للمروي لهم، وبقي غائباً عن العنصر الشخصاني الثاني “الرجل”، الذي يتقاسم مع المرأة مساحة النص شاغلاً نصفها تماماً. السرّ الذي نهضت عليه حبكة النص السردية، بقي ماثلاً ومشتغلاً داخل النص حتى بعد انتهاء فعالياته، فالدلالة التنكرية للعنوان “لقاء” انتهت في خاتمة المطاف إلى “لا ـــ لقاء”، بفعل سوء التفاهم والاتصال بين طرفي المعادلة النصية وعدم قدرة أحدهما على التقاط الإشارة السيميائية الموجهة له من الآخر، فالجمهور “المروي لهم” وهم يطلون على مشاهد الحدث الشعري، أدركوا السر في آخر لحظة لسانية انتهت إليها لغة النص “امرأة – خرساء”، إذ إنَّ عقد اللقاء الوهمي ينفرط قبل أن يتحقق.
الحكاية التي قدمها النص حكاية مخلّقة، لأنَّ اللغة التي اعتمدت عليها في صياغة نموذجها الحكائي هي لغة صمت، لغة تحيل دون رغبة الإفضاء وصولاً إلى الآخر. ومما ساعد على تكريس هذا الوضع تحييد عنصري الزمان والمكان، فطغيان الحضور الشخصاني وهيمنته قيّد حضور العناصر الأخرى وقلّل من إمكانية اشتغالها، على الرغم من أنَّ عمل الشخصية كان متوازياً، فكل شخصية كانت تعمل داخل نسقها الشعري المتخيل باستقلالية عازلة، جعلت اللقاء المقترح في العنوان مستحيلاً في المتن.