نينوى.. جوهرة الامبراطوريَّة الآشوريَّة
جيسون إيربانوس
ترجمة واعداد: مي اسماعيل
لم يعرف المنقبون ماذا سيجدون حينما بدأوا البحث عن التمثال الآشوري ذي الألفين وسبعمئة عام، والذي سبق لهم رؤيته منذ بضعة عقود. جرى الكشف عن التمثال الضخم أوائل تسعينات القرن الماضي، وأُعيد دفنه حماية له. وفي عام 2023، وبعد استقرار الأوضاع في المنطقة؛ عادت بعثة عراقية- فرنسية للتنقيب.. أزاح المنقبون نحو عشرة امتار من تراب الطمر فظهرت بالتدريج معالم التمثال الدقيقة: صفوف من الريشات المتداخلة بدقة، وتجعيدات متدلية للحية رجل، وحوافر ثور؛ كلها منحوتة بمهارة من حجر المرمر الأبيض اللامع.
يكاد ارتفاع التمثال يقارب الأربعة امتار، ويزن نحو عشرين طنا.. انه الثور المجنح “lamassu”؛ ويمثل إلهاً آشوريا برأس إنسان وجسد ثور له أجنحة. بعد الظروف الصعبة التي تعرض لها الموقع؛ كان من المدهش العثور على التمثال سليما؛ كما يقول عالم الآثار “باسكال باترلين” من جامعة بانتيون السوربون: “إختبأ الثور المجنح ما بين الخنادق والمخابئ المضادة للدبابات. وبالنظر لتلك الظروف، ومع آثار القصف الثقيل والمعارك؛ كانت معجزة أنه لم يتضرر”.. كان رأس التمثال مفقودا؛ لكن المسؤولين العراقيين كانوا يعرفون أن الرأس نُهِبَ خلسة عام 1995 وجرى تقطيعه الى أجزاء لتهريبه خارج العراق. جرت استعادة أجزاء الرأس بنجاح، وهو الآن موجود في المتحف العراقي ببغداد.
“دور شروكين”
وقف الثور المجنح يوما حارسا حاميا عند بوابة مدينة “دور شروكين-Dur-Sharrukin” القديمة، بالقرب من خورساباد الحديثة.. أُريد لـــ “دور شروكين” ان تكون أعظم مدن الامبراطورية الآشورية الجديدة، وأصبحت بالفعل عند أواخر القرن الثامن ق. م.، أكبر مدينة عرفها العالم حينها. بنى الملك “سرجون الثاني” (الذي حكم خلال سنوات 721-705 ق.م.) تلك المدينة التي يعني اسمها “حصن سرجون” لتكون العاصمة الجديدة لإمبراطوريته المزدهرة.. شيّد الملك قصورا فخمة ومعابد مزخرفة وجدرانا دفاعية قوية؛ لكن عمر مدينته الرائعة كان قصيرا؛ إذ مات سرجون في ساحة المعركة عام 705 ق.م. وكانت مدينته في طور التشييد. ورث إبنه “سنحاريب” العرش، وحكم سنوات 704-681 ق.م.؛ وسرعان ما تخلى عن مشروع والده.
على امتداد تاريخهم (الذي يعود لحوالي عام 2600 ق.م.) بنى الآشوريون سلسلة من العواصم؛ بدءً من “آشور-Ashur” ثم “كالخو-Kalkhu” (الاسم القديم لمدينة “نمرود”) وبعدها دور شروكين. بعد وفاة والده عزم سنحاريب على بناء عاصمة جديدة اخرى. يقول عالم الآثار “مايكل دانتي” من جامعة بنسلفانيا: “بعدما مات سرجون الثاني بشكل مُحبِط في ساحة المعركة إعتبر ابنه أن خورساباد مكان سيئ الحظ؛ لذا لن يعيش فيه مستقبلا”. إقتفى سنحاريب خطى والده في التعمير والتشييد؛ فكانت العاصمة الجديدة (نحو 17 كم جنوب دور شروكين) أضخم مرتين مما سبقها، والقصور أكبر والأعمال الفنية أعظم والجدران أعلى.. وصفتها المصادر الاغريقية والرومانية بأنها موقع أسطوري حجما وثروة لا مثيل لها.. تلك كانت “نينوى-Nineveh”..
آخر العواصم الجديدة
أعاد علماء الآثار إكتشاف نينوى في القرن التاسع عشر، وشرعوا بعملية تنقيب ستمتد لنحو 150 عاما؛ لكن التنقيب توقف مطلع القرن الحالي. تقع نينوى على الضفة الشرقية لنهر دجلة، وقد عانت (كما كان حال دور شروكين) أضرارا كارثية بسبب الحروب الحديثة والتخريب؛ خاصة بعد إحتلال الموصل من قِبل داعش بين عامي 2014- 2016؛ حتى أن الموقع ومعالمه هدمت عمداً بالجرافات؛ كما أصبح مهددا بالتوسع الحضري الذي يزحف نحو المدينة القديمة. حذّر تقرير صادر عن “صندوق التراث العالمي” (هيئة مراقبة ثقافية) عام 2010 ان نينوى الأثرية باتت على حافة ضياع لا رجعة له.. ولكن، وبهدوء الأوضاع العامة في السنوات اللاحقة؛ عادت الابحاث الآثارية، وتظافرت جهود عدة مشاريع دولية مع الهيئة العامة للآثار والتراث العراقية.. يتحدث دانتي قائلا: “اكتشفنا جميعا أشياء مذهلة.. وهي حقا نهضة حقيقية في مجال الاستكشاف”. يعمل دانتي وفريقه الآن على تقييم بوابة “ماشكي-Mashki” الأيقونية في نينوى؛ وهي واحدة من أكبر البوابات التي ارتفعت يوما فوق أسوار المدينة الهائلة.. هدم أعداء نينوى هذه البوابة أول مرة عام 612 ق.م.، وأُعادت السلطات العراقية ترميمها في سبعينات القرن الماضي. وتعرضت للهدم ثانية عام 2016، مع بوابة “أدد-Adad” وأجزاء من أسوار المدينة. لأجل اعادة بناء البوابة عمد فريق دانتي لإجراء حفريات جديدة (أعمق مما سبقها) وإزاحة كمية هائلة من الانقاض وصولا الى حُجيرات لم يجر اكتشافها سابقا.. عثر الفريق على سلسلة من الألواح المنحوتة المعاد استخدامها هي الأجود من نتاج الفن الآشوري منذ قرن مضى. يعود تاريخ اللوحات الى عهد سنحاريب، ولعلها مخصصة لعرض ما كان الملك يدعوه..”قصره الذي لا منافس له”. وثّق سنحاريب (كما فعل سائر الملوك الآشوريين) انجازاته؛ بصيغة الخط المكتوب (النص) والنحت الفني التصويري. صوّرت الجداريات حديثة الاكتشاف الحملة العسكرية التي شنها سنحاريب عام 701 ق.م. ضد مملكة يهوذا؛ وهو حدث مُدوّن في الانجيل.. تشهد هذه اللوحات على عصرٍ كانت فيه المملكة الآشورية الحديثة تمثل أغنى وأعتى وأقوى الشعوب في العالم، وتذكير بحقبة كانت فيها نينوى جوهرة تلك الامبراطورية. وهذا ليس الا مثالٌ واحد على المكتشفات الجديدة في نينوى..
اسمها من الآلهة
أخذت الحضارة الاشورية اسمها من “آشور”؛ وهو اسم أهم الآلهة لديهم وأول مدنهم. على مدى قرون من الزمان، تأرجحت مقادير الآشوريين بين مد وجزر؛ ولكن في أوائل الألفية الأولى قبل الميلاد، تولى سلسلة من الملوك الأقوياء قادوا لفترة طويلة من الرخاء والتوسع. وأصبحت ما كانت سابقا دويلة مدينة قليلة الاهمية نسبيا تسيطر على كامل بلاد ما بين النهرين، إضافة إلى أجزاء من مصر وبلاد الشام والأناضول والجزيرة العربية. بنى الآشوريون امبراطوريتهم اعتمادا على سمة جعلتهم ذوي سمعة صادمة؛ ليس فقط بين معاصريهم؛ بل حتى يومنا هذا.. يقول دانتي: “إعتمدت جميع الامبراطوريات على التهديد بالعنف على الأقل؛ لكن الآشوريين كانوا مندفعين نحو العنف بشكل خاص.. فاذا ثارت مدينة ضدهم أحرقوها وقتلوا السكان وأعدموا القادة العسكريين. وإذا وقعت جهة معاهدة مع الآشوريين ثم خرقتها؛ فإنهم يبيدون الخصم في معظم الأحوال.. وهذا أمر وحشي جدا حتى بالمعايير القديمة”. ولكن الآشوريين رغم قوتهم العسكرية إشتهروا بفن النحت والنقوش البارزة دقيقة الصنع، وجمعهم للآداب والعلوم وثراء مدنهم؛ وكان هذا ينطبق بشكل خاص على نينوى.
رغم الدلائل الاثرية أن الناس استوطنوا منطقة نينوى منذ نحو تسعة آلاف سنة، لكن سنحاريب غيّر شكل المستوطنة تماما. ورسمت العمارة الصرحية والنقوش والكتابات والالواح صورة لما كانت عليه المدينة.. كان لنينوى واحد من أضخم الجدران الدفاعية في العالم القديم؛ بعرض نحو 100 قدم في بعض الأجزاء، يحيط بمساحة تُعادل نحو 7.77 كم مربع. كان لتلك الاسوار نحو 18 بوابة على الأقل؛ أحداها على الأقل محاط بتماثيل ثيران مجنحة عملاقة تشبه تلك التي أعيد اكتشافها مؤخرا في خورساباد. ضمت المدينة في اوج عظمتها مجمعا للمباني العامة يسمى عادة “أكروبوليس-Acropolises”، وقصورا باذخة ومعابد مهيبة. كان في المدينة منازل فخمة ذات أفنية، وشوارع عريضة للمواكب، ومنحوتات وتماثيل، وحدائق غنّاء ومتنزهات تضم مجموعة من النباتات والحيوانات الغريبة التي جرى صيدها في المناطق النائية من أراضي الآشوريين. وهو ما يصفه دانتي قائلا: “كانت الفكرة ان تلك الحدائق تمثل عالما مُصغرا للعجائب التي تضمها أراضي الامبراطورية؛ ليتمكن سكان العاصمة من إدراك عظمة إمبراطوريتهم.. وهو أمرٌ له تأثير كبير”.
أكبر مكتبة تاريخية
بعد قرن من جلوس سنحاريب على العرش؛ اختفت عاصمته، والامبراطورية الآشورية الجديدة ذاتها.. إذ إجتاحت نينوى عام 612 ق.م. جيوش تحالفٍ جمع بين البابليين من الجنوب والميديين من الشرق؛ وهما عدوان قديمان ورعايا سابقون للآشوريين. وكانت تلك ضربة لم يتعاف الآشوريون منها ابدا؛ فانحدرت الامبراطورية ونينوى نحو نسيانٍ نسبي.. بقي موقع المدينة الدقيق غير معروفٍ عموما حتى القرن التاسع عشر؛ بعد نشاط بعثات التنقيب الأوروبية.. عثر هؤلاء على التماثيل الضخمة والمباني الممتدة وأكثر من ثلاثين ألف رقيم طيني مكتوب بالمسمارية؛ جمعها حفيد سنحاريب: “آشور بانيبال- Ashurbanipal”، الذي حكم سنوات 668-631 ق.م.، وأسس واحدة من أنفس مكتبات العالم القديم.. كشفت تلك التنقيبات أن امبراطورية آشور الجديدة ومؤسسوها كانوا أكثر بكثير مما تشي به سمعتهم (من الطمع والتعطش للحروب) ومما افترضه العالم عنهم.. وأن نينوى كانت مدينة مذهلة؛ تقف بين مدن العالم القديم واحدة من أعظم العواصم الملكية وأكثرها فخامة..
يقول “نيكولو ماركيتي” (مدير البعثة العراقية الإيطالية في نينوى ومنسق مشروع “كالام- KALAM”؛ الذي جاءت تسميته وفق كلمة سومرية قديمة تعني “البلد”): “أسعفنا الحظ أن وجدنا قوس بوابة أدد سليما بعد التنقيب؛ رغم الظروف التي تعرض لها الموقع؛ والذي يكاد ارتفاعه يقارب العشرة امتار”. ركز المنقبون القدماء جهودهم على التماثيل والصروح الكبيرة والاسوار الهائلة؛ لكن التركيز اليوم بات منصبّا على تقييم حجم المدينة وتخطيطها والبنى الداعمة للحياة فيها. ولعل ما يثير الدهشة الكشف عن مدى إكتظاظ المدينة؛ إذ أفترض العلماء أن مساحات واسعة من المدينة داخل الأسوار خُصِصت للمساحات المفتوحة والحدائق والمراعي، وخاصة في الزاوية الشمالية الشرقية، حيث لم يكن هناك سوى القليل من المعالم الأثرية المرئية على السطح. لكن المسح الجيوفيزيائي أثبت العكس تماما؛ إذ كشف عن وضع مزدحم للغاية بالمنازل والأزقة الضيقة، ولا يوجد متر مربع فارغ واحد!
موكب الملوك
خلال أعمال التنقيب قرب الجدار الشرقي للمدينة، اكتشف فريق ماركيتي بوابة لم تكن معروفة من قبل، وأدلة على مهارة الآشوريين الجدد كمهندسين هيدروليكيين.. إذ كشفوا عن نفقٍ مائي طوله نحو 41 مترا، يمر مباشرة عبر جزءٍ من الجدار الدفاعي الذي يبلغ سمكه نحو 30 مترا. ينقل هذا المجرى المياه من نهر “الخوصر-Khosr “ المجاور إلى المدينة، ويمثل جزءً صغيراً من نظام المياه المتطور الذي نفذه الآشوريون الجدد لدعم مدينة بحجم نينوى. تبدأ تلك الشبكة الهيدروليكية على بُعدِ يفوق 64كم من سفوح جبال زاغروس، حيث يواصل علماء الآثار تحقيق اكتشافات مثيرة للاهتمام.
نفّذ سنحاريب مشاريع مائية لدعم المستوطنات الحضرية والريفية الآشورية، وخلال نحو خمسة عشر عاما فقط، ما بين سنوات 703-688 ق.م.؛ أنشأ سنحاريب أكثر من 322 كم من القنوات والسدود والأنفاق والخزانات. حُفِرَت القنوات عبر الصخور، وجرى تحويل الأنهار وتوسيع الينابيع الطبيعية، وبناء قنوات المياه. ويقول عالم الآثار “دانييل موراندي بوناكوسي” من جامعة “أوديني” الايطالية، وهو المدير المشارك لمشروع التنقيب: “هذه أول القنوات الحجرية لنقل المياه المعروفة في التاريخ؛ إذ تسبق القنوات الرومانية بنحو أربعة قرون”.
تبلغ أبعاد الالواح الحجرية المنحوتة التي تحيط بقنوات الماء نحو (2 x 3) متر وتنتشر على نحو كيلومتر ونصف. على كل منها مشهد طقسي لموكب من تماثيل الآلهة الآشورية السبعة الرئيسية: “آشور، وموليسو، وسين، ونابو، وشمش، وأداد، وعشتار” وهم يقفون فوق حيوانات تمشي. وعلى جانبي الموكب صور الملك (سنحاريب على الاغلب)، لتوثيق انجازه ببناء القنوات.
كان تدمير المدينة على ايدي الاعداء عنيفا بشكل استثنائي، ولم يقتصر الامر على الرغبة بهزيمة الآشوريين؛ كما يقول “دانتي”: “لقد أرادوا القضاء عليهم حتى لا يتمكنوا من النهوض من تحت الرماد مرة أخرى..”؛ وهذا ما دلّت عليه كمية الهياكل العظمية لنساء وأطفال وشيوخ التي عثر عليها المنقبون عند البوابات..
مجلة “آركيولوجي- Archeology”،
عدد آب- أيلول 2024