أحمد الشطري
غالباً ما تسعى النصوص النثرية إلى اعتماد تقنيات مختلفة، تمتح من مشارب متعددة؛ لتخلق نوعاً موازياً لسحرية الإيقاع الصوتي، من خلال مدِّ جسور التواصل مع مختلف الأشكال التعبيرية، فهي تارة تثب بخطى راسخة نحو تقنيات السرد، لتكسر حواجز التوحُّد النوعي، وتارة تعرج إلى سماوات تقنية التشكيل، لتجعل من حروف اللغة فرشاة ترسم من خلالها لوحات تشكيلية ثلاثية الأبعاد.
وهذا التمازج في البناء الأسلوبي للنص النثري لا يعني تغييب الملامح الأسلوبية الخاصة لمنشئي النصوص النثرية، وإنما هي توصيف عام للبناء التقني، مع احتفاظ كل شاعر بتفصيلاته الخاصة التي تميزه عن غيره. مثلما هو احتفاظ كل نص بتفاصيله الخاصة التي تميزه عن باقي النصوص.
ونصوص مجموعة (قصائد العائلة) للشاعر عارف الساعدي الصادرة عن دار صوفيا 2023، تنطوي على مساحة واسعة من تلك السمات التي نوهنا عنها في ما تقدم، فهذه النصوص التي تحتفي بالدفء العائلي بأسلوب يتسلل إلى دواخل المتلقي عبر نوافذ العاطفي ليحرك فيها - ومن خلال تشكيل مدهش تتداخل فيه إيقاعية الصورة الفنية مع سلاسة العبارة الثرية بالألفة- كوامن المشاعر والذكريات، ولكنها في ذات الوقت تبقى محافظة في جانبها الدلالي على عمقها الفكري والمعنوي.
لقد هيأت مرونة النص النثري للغة والخيال حالة من الإنسيابية في الحركة العابرة للأجناس، والتوغُّل غير المقيَّد في تشكيل فضاء منفتح يمتزج فيه الرؤيوي بـ(الشعبوي) والمركب بالبسيط، وبساطة الألفاظ والتراكيب بعمق المعنى وجمال التعبير، وهذا الوصف يكاد أن ينطبق أيضاً على النصوص الموزونة وفق نظام التفعيلة في هذه المجموعة، والتي تتماها بلغتها وبنائها التقني مع النصوص النثرية، ومن هذا المنطلق يأتي وصفنا للبناء الأسلوبي شاملاً لكل نصوص المجموعة، مع التأكيد على أن السمات الأسلوبية لنصوص هذه المجموعة تختلف بعض الشيء إن لم نقل كثيراً عن السمات الأسلوبية لنصوص الشاعر الساعدي التي تلتزم العروض الخليلية.
في (قصائد العائلة) تتشكل لوحات للواقع الاجتماعي المصغر، تتزين بألوان المفردات الحميمية سواء بسرديَّاتها أم بصيغها الخطابية، والتي تقترب ليس من المفردة العامية وإنما من المفردة الشعبية على وجه الدقة، إذ ثمة فارق- كما نرى- بين المفردة العامية و المفردة الشعبية، رغم أن المتصور لدى كثير من الناس أنهما يحملان ذات الدلالة، ويتجلّى هذا الفارق في أن المفردة الشعبية هي مفردة فصيحة، بيد أن كثرة تداولها أو ما يجري عليها من نحت ينقلها إلى معجم المفردات العامية، كما في مفردات( يمه وبويه ونومه خفيف، ونواعي أمي ومشرورين .. إلى غير ذلك)،
في (قصائد العائلة) نجد أن الجانب السردي يشكل الأساس الذي تنبني عليه النصوص؛ لتقدم خطابها للمتلقي عبر تقنياته المختلفة، سواء بطريقة استدعاء الماضي أو ما يسمى بـ(الفلاش باك)، أم بطريقة بناء صورة متخيلة للمستقبل، أم بوصف الواقع الحالي، بمعنى أن الفعل السردي ينتقل زمنياً عبر الأبعاد الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، رغم أن الزمن الحاضر هو زمن وهمي كما يرى بعض فلاسفة النقد باعتبار أن كل وصف للحاضر هو وصف لزمن مضى، وهذا هو أقرب للحقيقة - كما نرى- باعتبار أن الحاضر هو لحظة وهمية أو خيط وهمي بين الماضي والمستقبل، ولحظة وقوع الحدث عندما تدخل في عالم الوصف تصبح ماضيا.
في نص(يمه يا يمه فوق قبر أبي) -الذي ارتأينا أن يكون محور قراءتنا كمرآة تنعكس عليها السمات الغالبة على نصوص المجموعة الأخرى- نجد أن هناك تنازعاً بين فلسفتين: الأولى تنبني على عقيدة الدين الإسلامي في مسألة التقاء أرواح الأقارب الموتى في عالم البرزخ، والثانية هي فلسفة التناسخ التي ينسب الاعتقاد بها إلى الهندوس والبوذيين والنصيرية وفلاسفة اليونان، رغم أن الشاعر يشير في قصيدته إلى مآل الجسد وليس مآل الروح، وهذا المآل الجسدي يتفق مع العقيدة الإسلامية من جهة التحول الترابي ويتفق مع فلسفة التناسخ من جهة الشعور، فالتنازع هنا قائم من جهتين: جهة اجتماع الأرواح والمآل الجسدي الترابي، وجهة المآل الجسدي المقترن بالشعور. وتتجلى الأولى في قوله: “هل عرفك؟/ فقد تركك وأنت في الأربعين/ وها أنت تعبر نحو الخامسة والسبعين/ هل عرفك؟/ من المؤكد أنك عرفته/ فهو ما زال في الثامنة عشرة من عمره/ لم يستطع أن يكبر أكثر من هذا/هل كففت عن ترديد لازمتك القاتلة/(( يا عويدل يا بوية)”.
بينما تتجلى الثانية في قوله: “سألتحم بالتراب جيداً/وسأنحل به كما يشتهي/ وسأتحول بعد مائة عامٍ/ إلى سماد طيبٍ/ يرشُّه المزارعون على حنطتهم/ بعدها أتحول إلى خبزة ساخنة/ يأكلها أحد أحفاد أولادي/ لحظتها سأشعر بوجودي”.
وإذا كانت فلسفة التناسخ لم تتجل بشكل صريح في المقطع السابق، فإنها تتجلى بوضوح في مقطع آخر من مقاطع القصيدة إذ يقول:” فأنا كائنٌ عصيٌّ على الموت/ سيبقى خيط الوجود مرتبطاً/ وها أنا أحدثك يا أبي بروح أحدهم/ ربما أحد أجدادنا القدامى حلّتْ روحه/ بحبّة المشمش التي أحب... وهكذا يتناسل الموتى بأجساد الأحياء/ وتلتفُّ الأرواح بالأرواح”.
في هذا النص أيضاً نجد تجليات البناء السردي بشكل واضح، فالشاعر هنا يتقمص دور الراوي عبر تقنية( التبئير الداخلي) وفق تقسيمات جيرار جينيت لزاوية الرؤية، أي (الرؤية مع)، في مقابل ذلك يحدد لنا الشاعر شخصية المروي له والمتمثلة بـ(والده)، ومن خلال حوار مفترض ومن طرف واحد هو الراوي، يسرد لنا معاناته مع كتابة مرثية لوالده، ثم ينتقل لطرح تساؤلات حول ما يفعله الأب في رحلة انتقاله للعالم الآخر(الموت)، مقدماً لنا صورة عن أخيه الذي أعدمه النظام السابق، ثم ينتقل ليقدم لنا صورة لشخصية ذلك الأب بمعاناته الصحية، وعلاقاته الاجتماعية، وعلاقته بغناء المطرب (داخل حسن) الذي اختار لازمته الشهيرة (يمه يا يمه)؛ لتكون متعالية نصية لنصه هذا، ثم ينتقل إلى تقديم صورة لشخصيته وما يواجهه من صراعات مع الحياة وما يتحمله من أفكار ورؤى، ليختم سرديته بقوله:” وبهذا فليطمئن الجميع/ لن ينقص أحدٌ من هذا العالم/ ولن يزيد”.
لقد اختار الشاعر أن يقدم خطاباً نصه هذا وكذلك النصوص الأخرى في مجموعته هذه، عبر لغة تبتعد عن وعورة التعابير من خلال بساطة وإنسيابية المفردات، وتراكيب الجمل التي تبدو ظاهرياً قريبة من الخطابية والمباشرة، غير ميَّالة إلى الترميز والتركيب المعقَّد، بيد أنها جاءت حافلة بالعمق ومعبَّأة بالأفكار الفلسفية، ومثيرة للجذب ببنياتها التقنية، ولعل هذه السمات ساهمت بقوة في إثراء النصوص فنياً وإيقاعياً سواء كانت نثرية أم تفعيلية، وأكسبتها قيمة عالية وقوة جذب وإثارة.