الأدب في المقهى

ثقافة 2024/10/06
...

  تماضر كريم

في لقاءات عابرة بصديقات وأصدقاء من الوسط الأدبي، وعندما يجري حديث قصير هنا، وإبداء ملاحظة هناك، يخبرونني دائماً أنهم أتوا على ذكر كتاباتي، من قصص ومقالات ورؤىً أخرى. أستطيع أن أتخيل هذا النوع من الأحاديث فأنا لستُ غريبةً عنه. تجري نقاشات حول الأدباء، ويتم أحيانا تصنيفهم، في عملية نقديّة ارتجاليّة لها اشتراطاتها الخاصة، تدور داخل جدران المقاهي الشعبية واللا شعبية. وربما أحيانا أثناء لعب الدومينو أو الطاولي أو الشطرنج.
أو خلال طقوس شرب الشاي والقهوة والأرگيلة. السؤال المهمُ هنا هل إن ممارسةً من هذا النوع تُعدّ أمراً صحياً، أم أنّها لا تعدو كونها مزاجاً، وهوَساً ضررهُ أكبر من نفعهِ؟، وذلك من باب أن للأدب أماكنه وأجواءه وشروطه!
هنا برأيي ينبغي التفريق بين أمرين، وهو أن هنالك لقاءات أدبيّة منتجة، أو على الأقل عادية، لأنّها لقاءات أصدقاء أملتها ظروف معينة في وقتٍ ما، ومن الطبيعي أن ثمة نقاشات أدبيّة تدور بينهم، وهذا أمر وارد إلى حدٍّ كبيرٍ في كلِّ زمانٍ ومكان. أمّا الأمر الآخر فهو أن تكون هناك لقاءات ثابتة متكررة في مقاهٍ بعينها، في عملية موازية لما يحصل في الاتحادات الأدبيّة من جلسات وورش، ومؤتمرات. لكنّها تتم في أروقة المقاهي. قد تبدو لوهلة مسألة عادية، فالأدباء، كتاباً ونقّاداً يأنسون ببعضهم، ومن الطبيعي جداً أن ثمة أحاديث أدبيّة يتم تداولها بينهم، هناك وهم يمارسون هواياتهم الصغيرة في صباحاتهم ومساءاتهم. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتخطاهُ إلى ايجاد خط أدبي موازٍ للأول، مكانه المقهى. بأيِّ حال من الأحوال لا يمكن النظر إلى تلك الجلسات الأدبيّة التي تُعقد على أصوات الملاعق في أكواب الشاي، أو ضجيج اللاعبين الفائزين والخاسرين، أو وقع قطع الدومينو على سطوح الطاولات، بعين الاهتمام والجد، مهما بلغت الرؤى التي يتم طرحها أو تدارسها، لأنّها رؤىً عابرة وتأخذ شكل الملاحظات، مما يجعلها تبدو أشبه بانطباعات سطحيّة، حول هذا الكاتب أو ذاك. فضلاً عن إشكالية ثقافية - وهنا أنا لست معنيةً بأشكاليات من نوع آخر منها اجتماعية وإنسانية- تفرزها تلك التجمعات، تتعلق بما يقال فيها وما سوف ينتج عنه من أصداء قد تكون بلا رصانة، وبدلاً من أن تكون تلك المقاهي مراكز تنويريّة، تغدو منابع للأقاويل والتخرّصات الأدبيّة.
ثمة أسماء لامعة لمقاهٍ بعينها، تركت أثراً واضحاً في الذاكرة الانسانيّة، لا يمكن نكران ذلك، في بغداد وحدها عشرات المقاهي التي يقصدها الأدباء على اختلاف توجهاتهم وقناعاتهم، وقد بدت كأيقونات رمزيّة اجتماعيّة وإنسانيّة، لكن تلك المقاهي لم تكن مؤثرة في الحِراك الثقافي. ولم تتجاوز حدودها الترفيه وإزجاء الوقت وإبداء الملاحظات والانطباعات الأدبيّة فيما يُعتقد أنه ممارسة ثقافيّة.
بسهولة شديدة يمكن اكتشاف أن تداول الأدب في المقهى من أشخاص بعينهم يكرّس لشلليّة يمكن أن تمتدَّ إلى ما وراء حدود تلك التجمعات، ومن ثمَّ تلقي بظلالها على العملية الأدبيّة برمتها.