{تنورة جينز قصيرة}.. الهم الإنساني ممزوجاً بالوجودي
د. سمير الخليل
لعل من الظواهر التي شكلت نوعاً من الالتقاط الاستثنائي اهتمام القاصة مآب عامر عبر مجموعتها القصصيَّة "تنورة جينز قصيرة" بما يحدث في وسائل النقل: السيارات والباصات التي تشهد فضاء يمثل معاناة ومكابدات ومفارقات الواقع اليومي الذي تعيشه الذات الأنثويَّة، وهو مكان متحرك ينطوي على وجود شخصيّات وأمزجة وأجواء تحمل التناقض والتأزم والتصادم أحياناً، والقاصة في رصدها للمكان المفتوح العام والمتحرك توحي للمتلقي بأجواء وسياقات وظواهر العقل الجمعي والموروث الاجتماعي ومظاهره السلبيّة والإيجابيّة التي تجد لها متنفساً في مثل هذه الأمكنة مما يجسد الصراع بين الذات المتطلعة نسقها الفرداني وبين هيمنة المطلق الاجتماعي وسيطرة التابوات في مجمل التفاصيل،
ولهذا نلحظ ارتباط فكرة الحريّة بالمكان واختلاف المعنى بين الكلام العام والخاص والمفتوح والمغلق، والأليف والمعادي بحسب تقسيمات النقاد للمكان وإنْ اختلفت منظوراتهم ومعطياتهم الإحالية في تفسيره وبيان أثره، ويمكن القول إنّ المكان بحد ذاته إشارة وجوديّة وعلامة سيميائيّة تكشف جانباً من جوانب الكينونة الداخلية للشخصيّات النسائيّة في هذه القصص.
عبر هذه المجموعة وخصائصها الفنيّة وعلى مستوى الثيمات والموضوعات يمكن القول إنَّ هذه التجارب بدأت تتجاوز الموروث التقليدي للأدب النسوي، ومن ثمّ تجاوز الطروحات الرومانسية والإيروسيّة التي طرحتها نماذج الرواية وقصص سابقة، إذ تجاوزت شكل وماهية الأنثى المخمليّة في قصائد نزار القباني وغيره ممّن خلق الأنموذج الرومانسي الطاغي والتمركز حول الجسدانيّة، فهذه المجموعة القصصيّة تطرح مشاهد فيها الهم الإنساني ممزوجاً بالهم الوجودي، والاهتمام بالتفاصيل المجهريّة التي تشكّل علامات وإحالات لواقع ملتبس ومأزوم، ولم تطرح القاصّة هذه المضامين بشكل مباشر وتقريري، بل سعت إلى التعمّق السايكولوجي واستبطان الواقع والكشف عن العوالم الداخلية والهواجس المكبوتة مع توظيف تقنيات السرد السينمي، ووصف التفاصيل المشهدية، كونها تعبّر عن المخبوء والمضمر وتؤشر له.
نلحظ في قصة (شارع) تمركز العنوان حول المكان الذي يوحي بالحرية والتمرّد والاختيار، وفيه دلالات نفسيّة ووجوديّة وتبدأ القصّة بالجمل القصيرة المتلاحقة، "تكدّست العربيات عند التقاطع، تهزّ فتاة يافعة قدمها بهستيريا، تجلس في مؤخّرة سيارة الأجرة مفعمة بالتوتر، وبأسلوب ازدرائي وهي تقول للسائق (لماذا هذا الطريق؟!)" (المجموعة: 21)، وعبر هذا المقطع السردي القصير يمكن التقاط تداعيات الهمّ الأنثوي، فالسائق يقود المركبة بمزاجيّته ومزاجية الشارع، والمرأة تقبع في مؤخّرة السيارة كنوع من القمع للعقل وتقاليد الموروث المتداولة، وتبقى المرأة تعاني من هموم الوصول إلى المكان المقصود، وسط هذه المظاهر والتناقضات، والقصّة تكشف عن الصراع بين دواخل الشخصيّة واضطراب المشهد المحيط بها، وهي تسعى إلى موقف تبحث فيه عن تحقيق ذاتها ورفضها، "على رصيف منعزل جلست من دون تفكير، خلف كشك الأميرات، جلس بجانبها أمسك يدها فقال:
- جئتُ اليوم للحفاظ على ما تبقّى؟
- لم يبق شيء.
- سحبت يدها بسرعة وخفّة وتوجّهت لإيقاف سيارة أجرة"(المجموعة:23).
إن المقطع الذي يمثّل خاتمة القصة كان موحياً وعميقاً ومعبّراً عن الرفض وكاشفاً عن لحظة اختيار، وتحمّلت المرأة رحلة الوصول وسط هذا الاضطراب المشهدي وهو تعبير عن نشدان الحرية، والانعتاق من الدبق والمحاصرة والفرض الذي تقاسيه المرأة، لكن القصّة تتوهّج مع لحظة الاختيار وتحقيق الذات وحرية التوق الوجودي، ونعثر على صورة مشهدّية أخرى لمكابدات المرأة في قصّة "قصاصة" التي تدور أحداثها في الباص، وهي تبرهن على وعي الكاتبة في توظيف المكان للكشف عن تداعيات الموقف والتفاصيل التي تتكرر وتهيمن على مثل هذه الأماكن، "أدركت الفتاة أنَّ الشاب على يمين الحافلة ينظر نحوها هي لا غيرها، قلّة من الفتيات يبدأن بالاقتراب من النوافذ في حذر فضولي، ينظرن إلى الشباب في الخارج، ففضولهن حول حركة الفتاة القادمة يزيد من ارتباك الجميع" (المجموعة: 25)، وكما يحدث في تلك الأماكن تشعر أن الشاب قد رمى لها قصاصة تحمل رقم الهاتف، والتركيز على هذا السلوك المتداول يوحي بنزعة التسجيل لهذه التداعيات التي تعترض سبيل المرأة، وتكشف عن قدرتها للاحتواء، فالقصّة ترصد ظاهرة من ظواهر الواقع الاجتماعي المزري الذي تعيش فيه الذات الأنثوية، وهي تتعرض لهذا النوع من التواصل الفج.
ولعل أهم الظواهر الفنيّة في معظم قصص المجموعة أنّها تخلو من أسماء الشخصيّات وهي إشارة إلى أنّها تتناول الذات الأنثوية بكلّ ما تعيشه من "بانوراما" الصراع في اليوميات المشهديّة ولا تعني الأسماء شيئاً في خضم الاهتمام بالمرأة إنساناً وليست كائنات شخصانية وتصبح الدلالة أكثر اتّساعاً وعمقاً من كونها هموم شخصيّة.
ونلحظ في قصّة (لاتيه) تكرار شخصيّة بنت أو فتاة يافعة تدخل المقهى وتتحول إلى كائن تأمّلي تراقب حركة الشخصيّات داخل المقهى وتتحول المرأة إلى رمزيّة الشاهد، وهي دلالة من دلالات دور المرأة التي تكتفي بالمراقبة كنوع من احتواء الواقع والحذر من الانغمار في الأحداث بسرعة ومن دون تروٍ، ونلاحظ من الناحية الفنية هذا الاستهلال المتكرر في رصد دخول المرأة إلى المكان وتتماهى مع تفاصيله كما في هذه القصة: "دخلت بنت يافعة مقهى يكاد يخلو من الرواد طالت وقفتها أمام الكاشير، طالعت صفحة (المنيو) قرأت جميع وجباته بعقل مفرغ من أي تحديد، نظرت بوجه عامل الكاشير وهو يملي عليها قائمة اقتراحات سريعة، وطلبت منه أن يمنحها مشروباً دافئاً على أن يكون مذاقه قليل السكّر.. الزجاج يحيط بالمقهى من ثلاثة اتجاهات مزيّن بحواف صاجيّة، بجانب البوابة بار صغيرة يطلّ على الشارع، جوار عامل الكاشير وبخط عمودي ثلّاجة عرضت فوقها ثلاث صحون (كرواسو) ساخن.." (المجموعة: 68).
ويمكن الاستدلال على هذا الحراك والدخول في تفاصيل المكان ووصف كلّ أجزائه ومن ثمّ تدبُّ حركة النساء والرجال في داخل المقهى، وتبقى (الفتاة اليافعة) تراقب المشهد بدقة واهتمام، وقد يحيلنا هذا المشهد المتكرر وبأنماط وأجواء مختلفة إلى حضور الممارسة اليوميّة للمرأة وهي تؤدّي حياة آليّة ميكانيكية قد تبعث على الملل والتكرار في أحايين كثيرة، ولكي نبرهن على أسلوب الوصف المشهدي بصيغة التسجيل السينمي ما ورد في ختام هذه القصّة وقصص كثيرة من نهاية مفتوحة والتركيز على الوصف المشهدي، مثل "المرأة والطفل هَمَّا بالخروج، هناك شاب وشابة يجلسان خلف البنت منغمسين يتبادلان نظرات صامتة، سحبا تركيز البنت وهي تراقب تحركاتهما بينما وجهها استشعر قطرات مياه كان العامل قد وصل إلى النافذة التي بجانبها" (المجموعة: 70).
وتصل القصّة إلى ذروة النهاية وهي تحمل دلالة الرصد المشهدي لليوميات المتكررة التي تدل على موروثات وسلوكات يوميّة لا جديد فيها: "تراقب التفاصيل كلّها، كل ما يدور حولها وكأنّها مجرد عين كاميرا تسجّل ما يزول من لحظات الحياة، تلك اللّحظات التي لن تعود أبداً" (المجموعة: 71). بمعنى أن المرأة مشدودة إلى فكرة الأشياء وحركيتها وطبيعة الزوال الذي يشمل كلّ شيء وهو يعكس إحساساً وجودياً بجريان وسريان الحياة وتدفق التفاصيل مما يمنح الذات الأنثويّة بعداً فلسفياً في النظر إلى اليوميات والمشهديات المتواترة دوماً، وتلفتنا من قصص المجموعة المتميزة قصة (فراش ساخن) وهي ترصد همّاً وجودياً للذات الأنثويّة التي تعاني من الوحدة والضجر والملل والظلام، وهي تكابد العزلة في غرفتها كمكان مغلق، وتحاول ممارسة السلوك الاستهلاكي مع أشيائها لا سيما اللابتوب والأغاني وكلّ ما يبعث على تبديد الشعوب بالوحدة والزمن الرتيب، ونجد الاستهلال المشهدي أيضاً يبدأ: "الغبار يزداد كثافة، كأنّه شرشف رمادي يغطّي كل زاوية، فوق وتحت، تتربّع الفتاة في جلستها على وسادة ذات لون مغبر أيضاً، خلفها حائط ملوّن بقطع سوداء مبهمة" (المجموعة: 27). تتجلى في النص التفاصيل الصغيرة والمعتمة التي تدل على التلازم بين الوحدة والضجر ورماديّة المكان وسكونيته، وهي تبحث عن أي شيء ينقذها من الوحدة والضجر.