محمد حسن الساعدي
بالرغم من محاولات الادارة العسكرية الجديدة في سوريا في بناء دولة ديمقراطية بثوب مدني على أنقاض الحرب، التي استمرت لسنوات بين الفصائل وبين نظام الأسد، الا أن تجربة العراق ما زالت متقدمة في هذا الجانب، ويمكن لها أن تضيء طريقاً للمضي قدماً نحو الاستقرار والديمقراطية، حيث ولأول مرة تتاح للشعب السوري الفرصة لبناء مصيرهم بأيديهم والتأسيس لنظام سياسي جديد قادر على تمثيل جميع مواطني البلاد، إذ يرى مراقبون أن المرحلة الحالية تعد الأصعب والأقسى في تاريخ سوريا المعاصر، بسبب طبيعة النسيج الاجتماعي والذي انعكس بشكل واضح على المشكلات، التي يعاني منها هذا المجتمع، إلى جانب الوضع الإقليمي والدولي الذي يراقب الأحداث بحذر وشك.
العراق الذي يمتلك مشتركات كبيرة ومهمة بينه وبين المجتمع السوري، والذي واجه الصعوبات نفسها، إذ استطاع من تشكيل نفسه سياسياً بعد مرحلة صعبة من الصراعات الداخلية والدماء، ولكنه استطاع من عبورها، وعلى الرغم من التحدي الذي واجهه العراق في مدى قدرته على تشكيل نفسه سياسياً بعد عقود طويلة من الدكتاتورية، وها هو الآن يقدِّم درساً في كيفية بناء أسس الديمقراطية والاستقرار وبناء النظام السياسي الحديث.
استطاع العراق من تجاوز ثلاثة دروس مهمة في مراحل التأسيس لديمقراطيته الفتية، وهي تبني مبدأ الفيدرالية في الادارة والحكم واتخاذ القرارات على أساس الاجماع للحفاظ على تماسك الدولة، وتجنب تشكيل ديكتاتورية جديدة، من خلال صنع قيادات سياسية من أجل محاولة ملء الفراغ، الذي خلفته الديكتاتورية قبل عام 2003، والتركيز على المسائل العملية المتعلقة بالتنمية الاقتصادية وبناء المجتمع الرصين المتماسك.
استطاع العراق بالرغم من كل التحديات التي مرت به بعد عام 2003، أن ينجح في خلق ديمقراطية فعّالة إلى حد معقول بعد الاطاحة بنظام البعث الديكتاتوري، فقد استطاع الشعب العراقي أن يؤسس إلى بناء نظام تمثيلي يشمل آراء جميع المكونات العراقية، وتشارك في القرار السياسي للبلاد، وهذا يُحسب للقوى السياسية وهو ليس بالأمر السهل والإنجاز الهين، خصوصاً بعد أجيال قضاها الشعب العراقي تحت تسلط الاستبداد، الذي فرضته الدكتاتورية البعثية التي تركت أثراً عميقاً لدى العراقيين والسوريين على حد سواء.
بنى العراق نظامه السياسي الجديد على أسس مهمة في مقدمتها التعايش بين جميع المكونات على أساس عقد اجتماعي جديد، وهو الدستور العراقي، الذي وضع خارطة الطريق لهذه العلاقة، إضافة إلى تقاسم السلطة واللامركزية في الادارة والحكم، فضلا عن مبدأ التوافقية، التي بالرغم من مساوئها، إلا أنها استطاعت أن تسير بالبلاد إلى بر الامان، وتعبّر عن مشاركة الجميع في صنع العراق وحماية المصالح العليا للشعب العراقي بجميع مكوناته.
ما تواجهه سوريا الآن هو نفس ما واجهه العراق سابقاً واستطاع التغلب عليه بالعمل الدائم والمستمر، إلا وهو المحافظة على وحدة الأرض والشعب بجميع مكوناته المتداخلة في ما بينها، وهذا الامر يتطلب عملا مؤسساتيا دقيقا في كيفية التعامل مع هذه الملفات الحساسة، خصوصاً كسب المكونات الأخرى كالكرد والمسيحيين والعلويين والدروز، فالنموذج العراقي أعطانا درساً جيداً في التعامل مع الكرد وان الفيدرالية ساهمت كثيراً في الحفاظ عليهم كمكون اساسي وجزء مهم من العراق وأعطتهم حقوقهم، بالمقابل ساعد دور الكرد في استقرار البلاد ككل في المراحل الحرجة، التي مر العراق بها بعد التغيير واستطاع أن يكون حجر عثرة في تشكيل دكتاتوريات صغيرة هنا أو هناك.
بعد سقوط النظام السوري وشعور السوريين بالبهجة والفرح والمتضررين منه، فإن هناك سلطة ديكتاتورية قد نشأت وهي شخصية " الجولاني" والذي بدأ يسوّق نفسه على أنه الأب للسوريين، فظهوره بهذا الشكل واعتباره المنقذ والبطل ويصدره أتباعه على أنه ذلك المنقذ، يشكل تراجعاً كبيراً بالديمقراطية، سوريا بعد التغيير لديها المبررات الواقعية للتحرك بحذر في رسم مسارها إلى الأمام، على النقيض من العراق، فسوريا لا تمتلك الموارد النفطية، التي تساعدها على سد عجز ميزانيتها، كما أنها لا تملك الدعم الدولي الكافي، الذي يجعلها تعتمد عليهم في حمايتها من أي متغير على الأرض وتوفير الضمانات الأمنية في حالة ظهور الأزمات.
العراق اليوم أصبح يدار بعقلية عملية وليس مستعداً لتكرار تجارب دول أخرى، لذلك من الأجدر على السوريين أن ينظروا إلى العراق، لقد كانت الحكومة البراغماتية في العراق والمنغلقة على الذات والتكنوقراطية إيجابية صافية للتجربة الديمقراطية، اذ لم يظهر صدام جديد، وتمت تسوية الصراعات القديمة مع الأقليات بشكل دائم من خلال اتفاقيات تقاسم السلطة، كما ينبغي لهم ان يتعلموا الدروس من جيرانهم العراقيين، الذين بدؤوا على نفس المسار الصعب قبل عقدين من الزمان.