مرتضى النداوي
قد شهد العالم أداء (دونالد ترامب) لليمين الدستورية في العشرين من كانون الثاني الحالي، ليمسي بذلك الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة، وذلك في حفل أقيم داخل مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، بعد أداء القسم ألقى ترامب خطاب التنصيب، الذي تضمن وعودًا بإعادة "عظمة" الولايات المتحدة، مشيرًا إلى نهاية "الانحدار".
بتلميح إلى فشل خصمه جو بايدن ومن ورائه الديموقراطيين في إدارة وحسم العديد من الملفات الداخلية والخارجية.
وعلى أثر ذلك قد وقع ترامب على عدد غير قليل من الأوامر التنفيذية جاء في مقدمتها إلغاء 78 من الأوامر التنفيذية السابقة، المتعلقة بالمساواة بين الجنسين والهوية الجنسية (Gender).
وكذلك الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ ومن منظمة الصحة العالمية، ولم تخلو الأوامر التنفيذية من حصة للحدود الجنوبية، التي ينظر لها ترامب كمهدد للسيادة الوطنية الأمريكية، بناء عليه قرر ترامب ومن خلال أمر تنفيذي إعلان حالة الطوارئ على الحدود مع المكسيك.
ومن الأوامر التنفيذية المهمة تعليق برنامج المساعدات الخارجية، إذ سيكون التعليق لمدة 90 يوما لحين إجراء مراجعة شاملة هدفها التحقق من اتساق البرامج مع سياسته.
وكذلك العفو عن المدانين في أحداث الكابيتول عام 2021.
إن الفوارق بين إدارتي ترامب (2017-2021) و (2025-2029) واضحة وجلية، على الرغم من أنها نابعة من مُدركات ورؤى استراتيجية متسقة إن لم تَكُ متطابقة في معظم الحالات، ويمكن أن ترى ذلك من خلال ما تقدم، فالنظرة (الترامبوية) ما زالت ذاتها التي دفعت بالرجل نحو الخروج من اتفاقية باريس وكذلك انتهاج ذات السلوك مع جارته المكسيك وقضايا الهجرة غير الشرعية.
كل ما تقدم ينبجس عن تحول في العقيدة السياسية والتوجه العام من النزعة الشعبوية إلى الاستراتيجية الراديكالية في التعاطي مع الملفات والقضايا، التي تخص الداخل الأمريكي والبيئة الاستراتيجية العالمية.
وما يستدعي التأمل في هذه التحولات أنها وبحسب بعض المختصين تعد تغيرات بنيوية تفرض أنماط جديدة من التعاطي مع الأولويات الاستراتيجية للإدارة الأمريكية الجديدة، وأما على الصعيد الداخلي فإن التحولات المذكورة ستجعل التقاليد والمؤسسات الديموقراطية وأنساقها على محك الاختبار، لأن الرئيس الجديد يحاول إعادة هيكلة الدولة العميقة ومحاربة "المؤسسات السياسية الفاسدة" وكذلك التعاطي الحدي وغير المنسجم مع وسائل الاعلام المستقلة، كل هذه الممارسات التي من خلالها يمكن أن ترى مستقبل الإدارة الأمريكية لن تتلقى المعارضة، لأن الشعب الأمريكي شأنه شأن باقي شعوب المعمورة، لم يعُد مهتمًا بالسياسة والمصلحة القومية بقدر اهتمامه وسعيه في تحقيق الرفاه، فلا يهمه من يحكمه وماهية منطلقاته الأيديولوجية ما دام يوفر الأمن والوفرة السلعتين الأكثر إلحاحًا كحقائق منطقية وعقلانية قائمة بحد ذواتها، وكمتطلبات في تصورات العامة الذين يمثلون الدعامات الانتخابية ومصدر شرعية أي نظام بالمطلق، والصورة المتوارية خلف كل ما يجري هي مؤدى فوز ترامب بانتخابه كرئيس يتعدى القضية الانتخابية والسباق بين الحزبين إلى مفاعيل أخرى، منها شعور العامة أن الديموقراطية وما يرتبط بها من تطبيقات مجرد قضية صورية لا تخدم عناوينها ومبادئها –الذاتية- بل صُيرت لتكون أدوات بيد من يقبض على القوى الضاغطة لتحقيق المصالح الضيقة المغلفة بعناوين الحرية، من هذا يمكن اشتقاق واحدة من أهم المشكلات الفرعية، والتي حسمت تأرجح الولايات –بنسلفانيا، ميشيغان، ويسكونسن- بل ألحقت بهن ولايات أخرى كانت شبه محسومة طيلة دورات انتخابية ماضية لصالح الديموقراطيين –مينيسوتا، نيوهمبشير-، المؤشر الذي لن يكون عابرًا بالنسبة للديمقراطيين على أقل التقادير، فمن منظور أكثر دقة يمكن القول إن هذا النهج سيفتح الباب أمام زعامات سياسية مشابهة في المستقبل، للتصدي للحكم في كل أنحاء المعمورة وليس الولايات المتحدة فحسب، الأمر الذي سيفضي إلى خلق بيئة استراتيجية عالمية متعقدة أكثر مما هي عليه من تعقيد في الوقت الراهن.
في النهاية يمكن القول إن ترامب لن يكون مجرد رئيس، بل شخصية استطاعت الاستفادة من التحولات البنيوية في النظام الأمريكي والعالمي، بِكيفية مُدركة لقضية أن العالم لا يمكن أن يُدار وفق قواعد النظام أيام الحرب الباردة أو وفق نظام الأحادية القطبية الصلبة، بل استفاد من الفوضى، بحيث جعل من الولايات المتحدة القوة التي لا يمكن توقع أفعالها (Unpredictable)، وهذا يجسد مسعاه لتقليل ارتدادات الهيمنة وتخفيض كلفها.