علي لفتة سعيد
لذا، فإنّ التفاعل العقلي مع الأحداث التي شهدتها غزّة منذ السابع من أكتوبر قبل عام وأقلّ من نصف العام، فيما أُطلِق عليه طوفان الأقصى، كان تفاعلًا يميل إلى العاطفة، بحكم الانتماء والمصير والمشاركة في مواجهة العدو، ليس بوصفه كيانًا غاصبًا أو أنّه لقيطٌ ان وجد في أرضٍ عربية فحسب، بل لأنّه سرطان بدأ في بقعةٍ ويريد التمدّد إلى حيث تلموذات التاريخ وشعارات الكذب في إيجاد خارطةٍ جديدةٍ، تمتدّ بحسب الخرائط التي وضعها بنو صهيون، والتي تُرفع بين الحين والآخر، ويتمّ الإشهار بها والإعلان عنها (من النيل إلى الفرات).
ولهذا، فإنّ المشاركة العاطفية مع أحداث طوفان الأقصى تنبع من أكثر من اتجاه، حتى لو كانت هذه الاتجاهات متقاطعةً ومتعاكسةً، لكنها ترتبط برباطٍ وثيق: هي المصلحة العليا للمنطقة التي تحيط بالخرائط التي أحدثها الاحتلال الصهيوني منذ عام 1948، وما قبله وما بعد هذا التاريخ. ولهذا، فإنّ الطوفان في تبويبه العاطفي، يكون هو الكسب لمن نصر الواقع الفلسطيني، رغم أن العقل يتحدّث عن فائق الخسارات التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضفّة، وما كاد يحصل من توسّع للحرب في المنطقة لتشتعل كلّها، بدءًا من اليمن والخليج ولبنان وسوريا والأردن، ومن ثم العراق حتى الفرات.
وكان أكثرها حزنًا وخسارة ونجاحًا للمخطّط الصهيوني هو الأحداث التي كادت أن تجرّ إلى حربٍ أهليةٍ بين السلطة الفلسطينية في الضفّة الغربية ومخيّم جنين والفصائل المسلّحة هناك.
إنّ أول الأرباح التي أحدثها طوفان الأقصى في النهج العاطفي أنّ حماس أفشلت المخطّط الصهيوني في التمدّد، أو لنقل إنّها أخّرته لعشرات السنين القادمة، ولن تفكّر بطرحه لما تعرّضت له من خسائر، ليس على المستوى المالي فقط، بل على المستوى الاجتماعي والسياسي الذي سيبدأ بالصراع والتفتيت (وسماع عياطه) كما يقال، لان ساسة الكيان سيبدؤون بوضع جداول الخسارات واستغلالها سياسيا ربما تصل إلى حدّ المحاكمة.
ليس من الخطأ أن نتعامل عاطفيًا في الأمور التي تخصّ وجودنا وثقافتنا، مثلما ليس خطأ أن تزيد من غلة العاطفة لمواجهة عدو لا يمتلك من الإنسانية أيّة ذرّة، ولو كانت بمقدار تأفف ولو لحظة.
التفاعل العاطفي مرده أن النصرة تتبع التأييد، والتأييد يتبع العقيدة، والعقيدة تتبع الفكر والانتماء والتاريخ والوعي بما حول المؤيِّد.
وثاني هذه الأرباح العاطفية أنّ طوفان الأقصى بيّن وأوضح وكشف عن تلك العلاقات التي تربط الحكّام العرب مع الشعوب العربية، التي كانت تريد مناصرة القضية الفلسطينية فعليًا وليس عاطفيًا. وثالثها: فضح المخططات الغربية التي تناصر الكيان بحجّة الدفاع عن السامية والعقد التاريخية، سواء من جانب الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا، وبعض الدول في هذه القارّة أو تلك، والتي أعطت الشعوب العربية على الأقلّ إدراكًا، بأنّ السياسات التي يتبعها الحكّام هي سياسات الخنوع والخضوع لمبدأ القوّة، وتبيان أساس الحكم وكيفية نشوئه.
ورابعها: التطوّرات الإقليمية التي حصلت في لبنان وسوريا، والتي كشفت عاطفيًا أنّ الأمور تسير وفق مخطّطٍ لم يكن وليد طوفان الأقصى، بل هو الفرصة التي بدأت فيها عمليات تنفيذ المشاريع القديمة، وتقسيم المنطقة من خلال احتلالات (ناعمة) هدفها استغلال عاطفة الشعوب المغلوب على أمرها بوجود الحكّام الطغاة، ومن ثم العمل على تفتيت الخلايا العقلية، التي تعطي التفاعل مع مجريات الأحداث التي ستحدث، فجعلت الشعوب تعاني (طغاتيًا) لكي يتمّ القبول بما سيأتي على أنّه أرحم ممّا كان.
إنّ التفاعل العاطفي في موضوعة الأحداث في فلسطين شيء حسن، كونه سيجرّنا إلى تغييب السؤال الكبير، الذي يحتاج إلى تفاعل عقلي في التحليل المنطقي: ما الذي استفادت منه القضية الفلسطينية من طوفان الأقصى؟
لأنّ الإجابة هنا ستقسّم العقول إلى منحى لا يُحمَد عقباه، أمام هول ما أحدثه الكيان الصهيوني من ويلاتٍ ستبقى لعقود. وإن تمّ تعمير الأبنية، فإنّ ما خلّفته من حسابات اليُتم والجراح والعوق والقتل والاقتصاد الشبيه بالموت وغيرها، يجعل التفكير العقلي يقف أمامه في مقارنة بين حالتين: ما كان، وما حصل، وما سيحصل مستقبلًا.
ولهذا، فإنّ التفكير بالانتصار بطريقة العاطفة هو الأنسب، لأنّ هناك الكثير من معايير النتائج التي حصلت، وكشفت الكثير من الوجوه، وأخّرت الكثير من المخطّطات، حتى ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.