روسيا بوتين تعيد تأهيل «ستالين»

بانوراما 2019/07/21
...

 
أيرينا شيرباكوفا    ترجمة: مي اسماعيل
 
 
 
تميزت سنة 1989 بتوقعات كبيرة؛ إذ غنّى فريق الروك الروسي "كينو" أغنية "نحن ننتظر التغيير!"، وطالبت جموع المتظاهرين المليونية المحتشدة في شوارع موسكو بالحرية والديمقراطية. أحدثت حقبة غورباتشوف "حمى" للتغيير؛ وشهد الشعب أحداثاً مذهلة بتتابع أسبوعي. تخاطف الناس الصحف وتعلقوا بكل كلمة بثها التلفاز، وشعروا  أكثر فأكثر أنهم أحياء وأحرار(مع كل يوم من تلك الفترة). فلقد فهم كثيرون إنه لأجل تغيير النظام السوفييتي الفاسد كان عليهم معرفة حقيقة ماضيه الستاليني. خلال ذلك العام جرى تأسيس منظمة "ميموريـال-Memorial" لحقوق الإنسان؛ التي جمعت مئات الناشطين من أرجاء الاتحاد السوفييتي؛ ممن عاش بعضهم سنوات في معسكرات الاعتقال، ومنشقين عادوا قريباً من الاعتقال أو المنفى (ومنهم الفيزيائي النووي أندريه ساخاروف). كانت المهمة واضحة" يجب استعادة ذكريات ضحايا ستالين وكشفها للملأ".
 
حقبة وذكريات
تقول كاتبة المقال: "بحلول ربيع العام 1989 حدث أمر لم أكن أتوقعه في أكثر أحلامي طموحاً؛ إذ دُعيت لإلقاء خطبة في معهد التاريخ والمحفوظات بموسكو للحديث مع الطلبة عن مصائر سجناء معسكرات الاعتقال السابقين (القولاغ- gulag). بعدها سألني أحدهم هل التقيت بأحد مناصري ستالين شخصياً؟ كان رد فعلي الفوري هو الضحك؛ لكنني توقفت وتساءلت: هل بلغنا أخيراً مرحلة يعتقد فيها شباب سن العشرين انه لم يعد من وجود لمناصري ستالين؟ واليوم، بعد ثلاثين سنة؛ تذكرت تلك اللحظة بمشاعر مريرة". توافد الزوار مطلع التسعينيات على منزل صغير شغلته مكاتب منظمة "ميموريـال"، وأحضروا وثائق وذكريات السجون والمعتقلات ورسائل القولاغ، وقصاصات ورق صغيرة كانت تُرمى من نوافذ شاحنات النقل لتصل بأعجوبة الى هدفها المقصود. هناك أغراض أخرى منها صناديق حفظ الأمتعة (من رقائق الخشب)، وسترات السجن المرقعة وعليها أرقام السجناء، والملاعق والأطباق المعدنية ذات الحواف الخشنة. 
جلب الزوار كتباً يدوية النسخ، ومطرزات ورسوماً تمكنوا من إخفائها أثناء تفتيش الزنزانات. وكلها قادت لتأسيس إرشيف "ميموريـال"، الذي جمع آلاف الذكريات العائلية 
المشتتة.  "اعتقدنا حينها أنها بداية طريق طويلة، وأن على قادتنا السياسيين الجدد الاعتراف بأن تفهم الماضي مهمة أساسية. لكن المُصلحين افتقدوا الاهتمام بالتاريخ، وكانوا على عجلة لبناء اقتصاد السوق؛ فلم يروا الصلة بين الاصلاحات الاقتصادية الناجحة والحاجة لمجتمع مدني نابض بالحياة. كانت حكومة بوريس يلتسين تذكر القمع السياسي السوفييتي قبل موعد الانتخابات فقط؛ لتدفع الشيوعيين بعيداً. سرعان ما صارت "الديمقراطية" (في ظل أزمة اقتصادية حادة) كلمة نابية للعديد من الروس؛ الذين شعروا بخيبة الأمل لأن الاصلاحات لم تُنفذ قط. استسلم المجتمع الروسي للتعب واللامبالاة. وبعدما ساد الاعتقاد سابقاً أن كشفها للعلن أفضل؛ كانت جرائم ستالين من الفظاعة لدرجة لم يعد الشعب يرغب في 
التفكير بها". 
 
نسخ وطنية جديدة
بدأ الحنين الى الحقبة السوفييتية يتسلل الى النفوس عند أواسط التسعينيات؛ فصار الطابع الرمادي لحقبة بريجينيف (بصفوف الانتظار الطويلة والمتاجر الخاوية) يُستذكر كأنه وقت رخاء وسلام. وأصبح ما كان يبدو مستحيلاً خلال حقبة البيريسترويكا أمراً واقعاً؛ إذ لاح ظل ستالين مرة أخرى. 
"كان صعود فلاديمير بوتين الى السلطة مصحوباً بنسخة جديدة من الوطنية تعتمد على الجوانب "البطولية" و"المشرقة" من الماضي السوفييتي. وظهرت صورة ستالين ثانية؛ الزعيم القوي الذي ضمن الانتصار في الحرب العالمية الثانية وقاد القوة السوفييتية العظمى. عملت الدعاية التلفازية جاهدة لتعزيز تلك الصورة، ودُفع الملايين الذين هلكوا وسط موجات القمع السياسي الى هامش الذاكرة الجمعية. اليوم يفهم العديد من الروس تحرر أوروبا الشرقية سنة 1989 وسقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة على أنها هزائم أو كوارث.. ولا عجب؛ إذ وصف "بوتين" انهيار الاتحاد السوفييتي بـــأنه كان : "أعظم كارثة جيوسياسية خلال القرن العشرين". واليوم يطالعنا وجه بوتين في كل مكان؛ على لوحات الإعلان وجدران قطار الأنفاق وشبابيك محال بيع الكتب، فيما "نهضت" عشرات التماثيل والنصب له على امتداد أرجاء روسيا".  "لا يمكن القول إن الروس نسوا الارتباط المباشر بين اسم ستالين والقمع السياسي الذي طال كل أسرة تقريباً؛ بل هم لا يرغبون بتذكر الرعب ومن ارتكبه وما الدوافع التي وقفت وراءه، وليسوا مستعدين للاعتراف أن ذلك كان الدعامة الأساس لنظام بأسره! وأصبح التمجيد الحالي لانتصاراتنا وتبييض صورة ستالين ممكنا لأن روسيا اليوم لا تمتلك في الواقع أي مفهوم للمستقبل. فأي نوع من الأوطان نرغب بالعيش فيه؟ وطن.."نهض من كبوته" واتبع مساره المتفرد الخاص؟ لكن ما هو ذلك المسار؟ لقد فشل أيديولوجيو الكرملين في رسم أي تصور واضح..".
 
تحليل التاريخ
"يصعب اليوم تذكر سنة 1989 من دون الشعور العميق بفقدان الفرصة وتبدد الأمل. فخلال سنوات بوتين الأولى استبدلت الأغلبية الصامتة احتمالية الحرية بوعود "الاستقرار"؛ ولاحقاً بالكرامة الوطنية لما سمي "روسيا العظمى"؛ القوة التي ترسم الحدود حول نفسها وتشعر كأنها قلعة محاصرة. يبدو أن حريتنا تتقلص كل يوم بسرعة نفسها توسعها قبل ثلاثين سنة. ولعل المنظمات الانسانية هي التي تسعى منذ عقود (بلا كلل ومن دون دعم حكومي) لحفظ الذاكرة. فعندما جاءت سنة 2016 صنفت السلطات الروسية منظمة "ميموريـال" على أنها "عميل أجنبي"؛ كما جرى مع عدد من المنظمات غير الحكومية. ووضع بعض أعضائها ومؤرخيها في السجن بتهم ملفقة، ولوحق ناشطو الحقوق 
المدنية".  ما زالت هناك قوى تقاوم داخل المجتمع الروسي، وأناس يرغبون بمعرفة مصير أسلافهم. باتت منظمات المجتمع المدني تتلقى اليوم (كما كانت الحال منذ سنوات مضت) دعماً من جهات 
عديدة. كما يلتحق بها متطوعون إضافيون؛ شباب ينخرطون (رغم المعوقات التي تضعها السلطة) ضمن مبادرات ومشاريع جديدة لاستكشاف الذاكرة التاريخية. قد لا تعاد كتابة التاريخ بالكامل؛ وقد يكون بوتين نقطة جذب تثير قلق العالم خارج روسيا. 
ولكن في الداخل يبدو واضحاً للكثيرين ان عودة الدولة للديمقراطية ستبقى مستحيلة طالما عجز المجتمع عن شجب ستالين وإدانة النظام الذي 
أسسه.