هل ستضّمد زيارة البابا جراح مسيحيي العراق؟

الثانية والثالثة 2019/08/06
...

جورج منصور
 

 استحوذت الدعوة التي وجهها رئيس جمهورية العراق برهم صالح الى قداسة بابا الفاتيكان فرنسيس في شهر حزيران (يونيو) الماضي لزيارة العراق، المزمعة في العام المقبل، اهتماما متزايدا على الصعيد الرسمي ومن شرائح مختلفة في المجتمع، خاصة من لدن ما تبقى من المسيحيين في العراق، بعد ان تناقص عديدهم بشكل ملحوظ بسبب اعمال العنف التي طالتهم والاستهداف على الهوية واتهامهم بالعمالة للمحتل الاميركي وتفجير كنائسهم وانعدام الاستقرارالامني وتعرضهم الى عمليات ترهيب واستيلاء على ممتلكاتهم اواجبارهم على بيعها باسعار بخسة، ما زرع  الخوف والرعب في نفوسهم، فاختاروا الهجرة القسرية اواللجوء الى منافي دول العالم.
 وكان الرئيس العراقي قد اكد في رسالة الدعوة التي وجهها إلى قداسة البابا، على ان الزيارة المرتقبة تكتسب أهمية تاريخية كبيرة في دعم العراق دوليا، لما تحمله من دلالات ومعانٍ كبيرة، فضلا عن أنها ستسهم في تعزيز التماسك الاجتماعي بين مكونات الشعب
 العراقي.
ستكون الزيارة الاولى من نوعها في تاريخ العراق، وحسب بطريرك الكلدان الكاردينال لويس ساكو، من المتوقع ان تشمل الزيارة مدينة آور التاريخية في جنوب العراق، حيث ولد النبي ابراهيم. وتعتبر آور مهدا للديانات الابراهيمية ومكانا مقدسا للاديان الكبرى في الشرق الاوسط. ويأمل ان تقوي الزيارة من النسيج الاجتماعي العراقي وتفتح آفاق جديدة للحوارالاسلامي- المسيحي وتعزز مبدأ التعايش المشترك وتزيد من التسامح والمحبة والآخاء.
 ترى هل تشكل الزيارة‘ التي ستتحقق بعد ان يخف التصعيد الحالي والاحتقان في المنطقة، حراكا سياسيا للاعتراف بالتعددية ونبذ الخلافات والصراعات والنزاعات وسياسات التمييز والاستبداد والقهر وتحقيق الوحدة الوطنية، ورفض التمييز على اساس عرقي او ديني او طائفي او فكري او سياسي، وفسح المجال لمشاركة اوسع للمسيحيين في العملية السياسية ومؤسسات الدولة، وتبعث الامل فيهم  للتشبث بارض آبائهم واجدادهم الاوائل؟. إذ ان الحفاظ على النسيج الاجتماعي واعتماد مبدأ المواطنة كأساس لتحديد الحقوق والواجبات ومد جسور التفاهم والتقارب وتعزيز الاخاء بين اتباع الديانات والمذاهب في العراق مهمة حتمية لإرساء مبادئ العدالة والمساواة في المجتمع.
تشير المعطيات التاريخية الى ان العراق كان يتشكل، منذ الآف السنين، من دويلات المدن التي اقامت فيها عشائر وقبائل ذات اثنيات وديانات ومذاهب متعددة. وعلى رغم ان كل جماعة اثنية كانت تتميز بخصائصها الدينية والثقافية والحضارية، بيد انها، بفعل التعايش والتلاقح الحضاري المتبادل، اشتركت مع بعضها الآخر في العديد من السمات والتقاليد والعادات، وعاشت في منطقة اقليمية واحدة بميسوبوتاميا (وادي الرافدين) يعني العراق الحالي. حينها ازدهرت مدارس المسيحيين وكان لهم فلاسفة وعلماء ومؤرخون وفلكيون ومترجمون ولعبوا دورا بارزا في اثراء الثقافة والعلوم.
 ان السياسات الخاطئة التي انتهجتها النظم غير الديمقراطية المتعاقبة على حكم العراق، منذ قيام الدولة الحديثة، اضعفت امكانية معالجة حقوق القوميات واتباع الديانات والمذاهب في العراق، بطرق انسانية وعادلة وفي ضوء المبادئ التي اقرتها الشرعية الدولية. وقد اخل الظلم والتعسف الذي مارسه النظام السابق ومصادرته حريات الشعب، بسبب الانتماءات القومية والدينية والمذهبية وزرع الفرقة، بالوشائج التي كانت وما تزال تربط المكونات العراقية.
بعد عام 2003 تغيرت صورة الانتهاكات والجرائم التي طالت المكون المسيحي، فقد اقترفتها التنظيمات الارهابية وعصابات الجريمة المنظمة والمليشيات السائبة والمنفلتة المؤمنة بالعنف والتطرف، واودت بحياة العشرات من المسيحيين الابرياء في بغداد والبصرة والموصل وكركوك وتم الاستيلاء على ممتلكاتهم وحرق محلاتهم ومراكز اعمالهم التجارية وطالتهم عمليات التهجير القسري والقتل على الهوية في الموصل وبغداد والبصرة. من دون ان تكشف الحكومة عن الجناة او تقديمهم الى المحاكم.
وقد ادت تلك الاوضاع المرعبة والمأساوية، إما الى هجرة العوائل المسيحية الى مدن اقليم كردستان او اللجوء الى دول العالم، ومازال نزيف الهجرة وعمليات افراغ العراق من مسيحييه مستمرة. فقد تراجع عديدهم في العراق من 1.5 مليون في العام 2003 الى حوالي 250 ألف مسيحي، يعني انخفاضا في نسبة المسيحيين السكانية بحدود 85%. وقد وضعت منظمات حقوقية عالمية، العراق كثامن اسوأ بلد في العالم في موضوع اضطهاد المسيحيين.
 كما قتل ازيد من 1000 مسيحي في حوادث عنف متعددة في عموم العراق بينهم رجال دين، وتم الاستيلاء على 23 ألف عقار، وفجرت 58 كنيسة، عدا حرق وتدنيس كنائس الموصل وبلدات سهل نينوى. وفي حزيران 2007 قتل القس الشاب رغيد كني وفي شباط 2008 قتل المطران فرج رحو بطريقة شنيعة شرق مدينة الموصل وفي آيار 2010 تم استهداف حافلات نقل طلبة جامعة الموصل، واودى تفجيرحافلة الى اصابة العشرات من الطلبة المسيحيين ومقتل طالبة مسيحيية، كما تعرضت كنيسة سيدة النجاة للسريان الكاثوليك في بغداد في 31 تشرين الاول عام 2010 الى هجوم مسلح هو الاعنف من نوعه. وبعد سيطرة داعش على مدينة الموصل صيف عام 2014 افرغت هذه البلدات من مسيحييها وكتب على جدران بيوتهم حرف (ن) التي ترمز الى النصارى، للتمييز بينهم. وتم مطالبتهم باعتناق الاسلام او دفع الجزية او الهجرة او القتل.
ولم تعمل الحكومات المتعاقبة بعد عام 2003 الكثير في الحيلولة دون ترسيخ المشاعر المعادية للمسيحيين، سكان البلد الاصليين، الذين خيرهم داعش بعد احتلال  الموصل في عام 2014 بين اعتناق الاسلام او دفع الجزية او مغادرة بيتوهم واراضيهم ما ادى الى نزوح 125 الف مسيحي، ولم يتم تعويضهم على ممتلكاتهم التي تم سرقتها ونهبها او الاستيلاء عليها سواء في الموصل او في بغداد اوغيرها. كما سن في عام 2015  قانون مثير للجدل يلزم اطفال المسيحيين وغير المسلمين اعتناق الديانة الاسلامية، إذا اعتنق اباؤهم الاسلام او زواج امهاتهم من مسلمين. كما تحتوي الكتب المدرسية لمناهج التاريخ معلومات خاطئة ومشوهة عن تاريخ المسيحيين العراقيين، وفيها معلومات شحيحة وغير دقيقة عن المسيحيين في الغرب.
ان حماية المسيحيين والحيلولة دون رحيلهم الى خارج موطنهم الاصلي تقع على عاتق الدولة العراقية، عبر العمل الجاد لتغيير الصورة النمطية الراهنة ازاء حقوقهم ومعالجة التجاوزات التي تقع عليهم. كما يجب تطبيق ما جاء في الدستور العراقي في ما يخص اتباع الديانات والمذاهب في العراق، فقد ورد في المادة 2 ثانيا:"... ويضمن (الدستور) كامل الحقوق الدينية لجميع الافراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية، كالمسيحيين، والايزيديين، والصابئة المندائيين". واقرت المادة 3 بان "العراق بلد متعدد القوميات والاديان والمذاهب..." واكدت المادة 10 على ان "العتبات المقدسة، والمقامات الدينية في العراق، كيانات دينية وحضارية، وتلتزم الدولة بتأكيد وصيانة حرمتها، وضمان ممارسة الشعائر بحرية
 فيها".
ان التعدد القومي والاثني في العراق، يشكل ظاهرة إيجابية تغني المجتمع ويمكن توظيفه لصالح تطور الفرد والمجتمع، وهذا يتطلب صياغة ستراتيجيات جديدة تؤكد على العيش المشترك والتفاعل والتلاقح والتلاحم بدلا عن الفرقة والصراع والنزاع وتستند إلى التجارب المريرة المنصرمة والمبادئ العامة للمجتمع المدني الديمقراطي التعددي، ومن أجل تأصيل التضامن والإخاء وتعزيز احترام حقوق الانسان وتصفية آثار الانتهاكات الشنيعة السابقة لهذه الحقوق. كما يتطلب احترام خصوصية المسيحيين في العراق، وحمايتهم من الاستهدافات المتكررة وبناء الثقة بينهم وبين جيرانهم في الموصل وسهل نينوى، عبر إجراءات عملية، منها معاقبة الجناة، وتعويض الضحايا، واستعادة املاكهم، ورفع الألغام من حقولهم، واعمار مناطقهم وتحسين الخدمات لوتسهيل ظروف العودة الى ديارهم.
ان غنى العراق، هو حصيلة مهمة من التاريخ المادي والروحي للشعوب التي عاشت فيه منذ اقدم العصور. ومن الصعوبة بمكان، النهوض بالعراق الجديد دون ربط الجسور بين الحضارات السابقة وتأثيراتها وبين الواقع الحاضر حيث تعيش تلك الشعوب، وبين ما يراد اقامته في العراق من حضارة انسانية مدنية حديثة وديمقراطية.
اننا اليوم بحاجة ماسة الى استنهاض هذا الكم الكبير من التراث العراقي، ولكن ضمن سياقه التاريخي، اي اننا ندعو الى وضع كل لبنة فيه بمكانها الصحيح: تاريخياً وعمرانياً وثقافياً. لأن الحضارة الجبارة، التي نعتز بها اليوم لم تكن من صنع حاكم معين، او سلالة بعينها او جنس (عنصر، عرق) دون الآخرين، وانما هي نتيجة تضحيات هائلة قدمها سكان هذه المنطقة عبر الاف السنين، فأمتزجت عناصرها ومكوناتها، تماما كما امتزجت دماء ودموع وموروثات أبنائها وبناتها في وحدة تاريخية- بشرية عضوية يستحيل الفصل بينها. 
ان الإنسان العراقي سواء كان مسلماً أم مسيحياً، ايزيدياً أم صابئياً أم شبكيا، أم من ديانات ومذاهب أخرى، وسواء عاش في وسط وجنوب العراق أم في إقليم كردستان، يعتز بحضارات الشعوب الساكنة في هذه المنطقة منذ الاف السنين، وإذا تمتع بحقوقه العادلة والمشروعة، حينها ستتغلب حالة الوحدة والتضامن والتآخي على حالة الفرقة والصراع والنزاع، وتتعزز روح التعاون والتضامن والإخاء والشعور بالمواطنة الحرة والمتساوية في جمهورية العراق
 الاتحادي.
ان العديد من الدول الاوروبية والاسكندنافية، تضم أقواماً ذات تاريخ وحضارات متعددة. ومع ذلك، فالحرية الواسعة التي يتمتع بها أبناء كل قوم، والمتمثلة بمدارسهم الخاصة ومنتدياتهم ومؤسساتهم ومكتباتهم وصحفهم التي تعرض تراثهم القومي، وكذلك بممارستهم الحرة لشعائرهم الدينية وطقوسهم واحتفالاتهم الموسمية ومهرجاناتهم، لا تعرض وحدة هذه البلدان الى خطر، بل انها تتقوى يوماً بعد آخر. وان المتنورين في الدول المتحضرة يدافعون بلا هوادة عن التعدد الحضاري ويرون فيه غنى لا فقرا ما دام الولاء الوطني قائما، وما دامت جميع الثقافات تتفاعل وتتلاقح في ما بينها وتتطور.
فهل ستضمد زيارة بابا الفاتيكان جراح المسيحيين، الذين تعتبر ديانتهم ثاني اكبر الديانات في العراق وهم من اقدم المجتمعات المسيحية في الشرق الاوسط؟ وهل ستفلح في حث الحكومة على طمأنة المسيحيين وتوفير الحماية لهم من خلال وضع ستراتيجيات ناجعة لضمان حقوقهم وحماية وجودهم وفسح المجال امامهم للمشاركة في مؤسسات الدولة واجهزتها الامنية، والكف عن استحواذ الاحزاب السياسية على "الكوتا" المخصصة لهم، واعمار مناطقهم في سهل نينوى واديرتهم وكنائسهم التي طالها الارهاب، والحد من التغيير الديموغرافي لمناطقهم؟