ابراهيم العبادي
يتساءل عراقيون كثر عن السبب الذي جعل ولادة الحكومة الجديدة أمراً غاية في الصعوبة ويحتاج الى وقتٍ طويلٍ للاتفاق على شخص رئيس الوزراء وأعضاء كابينته؟، كان مفترضاً أنْ يغير قادة الأحزاب والكتل طريقة تعاطيهم مع الأزمات السياسيَّة الحادة، بعد شهرين من الاحتجاجات الدامية ويعيدوا قراءة المشهد الاجتماعي والسياسي بواقعيَّة وليس عبر فرضيَّة المؤامرة والمشروع المضاد، ولو أنهم انصاعوا لصوت الشارع المحتج الغاضب ونصائح المرجعيَّة الدينيَّة، لما احتاجوا الى كل هذا الوقت المهدور للاتفاق على شخص رئيس الوزراء، الأمر الذي يشير الى أنَّ القوم خائفون، ولديهم ما يخشون عليه، ليماطلوا كثيراً ويستعينوا بالآخرين ليهندسوا لهم مخرجاً من هذا الانسداد غير المعقول.
هل نستطيع الادعاء بعد اليوم أنَّ لدينا أحزاباً جماهيريَّة لديها حضورٌ في المجتمع؟ وهل يمكن المجادلة بأنَّ العراق فيه من العقول السياسيَّة ما لا يضطره للاستعانة بالجيران والأشقاء القريبين والبعيدين لاختيار شخصٍ تنحسرُ مهمته بإجراء انتخابات مبكرة وتسليم السلطة لممثلي الشعب، ليقوموا بدورهم باختيار الحكومة التي تباشر الإصلاح ومعالجة الأزمات المتفاقمة؟، الى هذا الحد تبدو المهمة صعبة ومعقدة والخيارات محدودة؟، لا أظن أنَّ الأمور بهذه الصعوبة، رغم عدم معرفتنا بأسرار الكواليس والغرف المغلقة، لكنَّ ما يتبدى من المواقف المعلنة والتصريحات يكشفُ عن أنَّ ثمة استقتالاً عنيفاً على أنْ يحتكر فريقٌ محددٌ اختيار رئيس وزراء الحكومة الانتقاليَّة، لأن هذا الفريق يعدُّ خسارة هذا الدور، بمثابة خسارة المستقبل السياسي لهذا الطيف الحزبي وآيديولوجيته السياسيَّة، والذي تناله سهامُ النقدِ والاحتجاج بشكلٍ عنيفٍ هذه الأيام، طبعاً يمكن تفهم سبب هذا الاستقتال نفسياً ومصلحياً، لكنْ ما لا يمكن فهمه هو ذهنيَّة الوصاية على الشعب وادعاء تمثيل الشرائح الأوسع، والدفاع عن السلوك السياسي بدعوى قضاء أربعين عاماً من (الجهاد) ضد الدكتاتوريَّة، وربما أيضاً بادعاء أحقيَّة من حملوا السلاح ضد الاستبداد والإرهاب، في أنْ يكون لهم نفوذ متعدد الأشكال على السلطة السياسيَّة والاقتصاد والثقافة والتعليم والسياسة الخارجيَّة، وبالتالي لا يمكنهم قبول أو تصوُّر خسارتهم لهذا النفوذ عبر قانون انتخابي جديد، ومفوضيَّة جديدة ولاحقاً حكومة جديدة.
إنَّ مشكلة هذا الطيف السياسي تكمُنُ في اعتقاده الراسخ بأنَّه يمثلُ مشروعاً داخلاً في صراع مع المشروع المضاد، وعليه ألا يستسلم ولا يتراجع حتى لو خرجت الملايين حاملة شعار (كفى)، وحتى لو صرحت المرجعيَّة بالفم الملآن أنَّ مصدر شرعيَّة الحكومة هو اختيار الناس وتصويتهم الحر، بلا تخويف أو ضغوط أو بروباغاندا إعلاميَّة.
عندما يعودُ ساسة هذا الطيف الى أنفسهم ليفكروا بمنطقيَّة أو لا منطقيَّة مواقفهم ستجد أنهم يعتمدون على شرعيَّة التاريخ الجهادي والانتماء الى الإسلام السياسي ومواجهة الاستكبار والدفاع عن الهوية ومواجهة المشروع الإسرائيلي، لكنَّ هؤلاء ينسون أنَّ التزامهم بهذه الايديولوجية مهما كانت محقة لا يلزم الشعب بشيء، إذا قرر هذا الشعب رأياً لا ينسجم مع كل أو جزءٍ من هذه المبادئ، طالما أنَّ الشعب هو صاحبُ السيادة وهو من يقرر بإرادته الحرَّة موقفه، وله كاملُ الحق في استبدال من يحكمونه بانتخابات نزيهة حتى لو كانوا مصداقاً للعشرة المبشرين بالجنة. وهذه نظريَّة سياسيَّة لإدارة الدولة تضاف الى رصيد نظريات الفقه السياسي الشيعي، بل هي أحدث نظرية يقررها المرجع السيستاني.
إنَّ أصل المشكلة والداء نابعٌ من عدم الإيمان بالتداول السلمي للسلطة وعدم الاقتناع بحق الجمهور في الاختيار، ولذلك أنفقَ الساسة وقتَ العراق الثمين على مشاورات واجتماعات ومداولات لاختيار رئيس وزراء لن يحكم أكثر من سنة، ما يؤكد أنَّهم قلقون بالفعل من انقلاب العمليَّة السياسيَّة وصعود من يظنون بهم أنهم مراهقون غير مؤصلين عقائدياً وسياسياً لحكم العراق، وهذه الأفكار في جوهرها تنسجمُ مع دساتير الدول الدينيَّة، ولا يمكن أنْ تُقبلَ في دولة كالعراق، خرج ناسه الى الشوارع ليستردوا أصواتهم التي منحوها لقوى لم تحقق لهم إنجازاً، فخسروا شرعيَّة الإنجاز، ولم يستند وجودهم في السلطة الى شرعيَّة دستوريَّة حقيقيَّة وليست شكليَّة، وفي الواقع إنَّهم لا يؤمنون إلا بالشرعيَّة الثوريَّة، وهذا هو جوهر الصراع الجاري في العراق، والسبب الذي يجعل المرجعيَّة تنطقُ مسانِدة للناس الذين يريدون الإصلاح ثم التغيير.