الكورونا السياسيَّة في العراق

الثانية والثالثة 2020/03/30
...

ابراهيم العبادي
 

أسوأ الأزمنة في حياة الشعوب، هي أزمنة التيه، التيه بأنواعه العقائدي والسياسي والاقتصادي والثقافي، لم يكن التيه مصطلحاً سياسياً شائع الاستخدام لأنه مصطلح ومفهوم عقائدي أساساً استخدمه الخطاب القرآني ليصف مرحلة زمنيَّة في حياة بني إسرائيل، وربما يقابله الفراغ باستخداماته الشائعة، فراغ السلطة والفراغ الأمني، كما تتداوله أدبيات التحليل السياسي اليومي.
لم يكن العراق مستعداً لوباء الكورونا وهو الموبوء بالكثير من أوبئة السياسة والثقافة والاقتصاد الريعي وعصاب الشخصيَّة والخوف المرضي الراسخ في بنيته التاريخيَّة، جاءت الكورونا والبلاد تعيش أزمات متوالية فأدخلت المجتمع العراقي في اختبار جديدٍ مع ذاته ومع العالم الخارجي.
وفق قانون التحدي والاستجابة الحضارية الذي اعتمده المفكر المؤرخ أرنولد توينيي (1889 - 1975) ليس أمام العراقيين من خيار سوى خوض هذا الغمار والانتصار على هذا التحدي حتى لا ينقرض عددٌ كبيرٌ من السكان كما انقرض ثلثا أسلافهم في طواعين العراق الشهيرة وآخرها طاعون أعوام النصف الأول من القرن التاسع عشر، يومذاك واجه الناس الأزمة بالاستسلام لقضاء الله وقدره، ظناً منهم أنه لا مهرب من المرض، فهلك الكثيرون ولم ينج إلا من هرب الى الصحراء معتزلاً البشر والحجر.
طاعوننا الجديد هوّن علينا الأمر، لأنه لم يختر أمة بعينها ليقتص منها، بل هاجم البشريَّة بأسرها ليضعها أمام اختبار جدي لإنسانيتها وعلومها وتقنياتها، فوجدنا في بلادنا كل أنواع السلوك المتحضر والجاهل، وجدنا عطفاً وتضامناً وتراحماً وإخلاصاً ومسؤوليَّة والتزاماً، الى جانبها تبدى الجهل والفقر الثقافي والعلمي والخرافة وغلبة عقليات فوضويَّة لا تشعر بالمسؤوليَّة ولا ترضى أنْ يقال عنها غير مسؤولة ولا تستحق أنْ تقرر مصير البلاد والعباد.
فقد اجتمعت على العراق أزمة السياسة والمال والأمن والصحة، وبينما تستعين حكومات العالم بكل أنظمة الطوارئ وقوانين التعبئة والدفاع لمواجهة الكارثة الوبائيَّة وتداعياتها السياسيَّة والاقتصادية، تستعين الطبقة السياسيَّة العراقية بكل أدوات الهجاء والتسقيط والكراهية والعناد والأنانيَّة والانغلاق على المصالح الحزبيَّة والشخصيَّة، لتأكيد بقائها في المرتبة العالية من السلم السياسي، طبقة يسهر القسم الشيعي منها حتى الصباح يتفاوضون على كل شيء ولا يتفقون على شيء، رغم انهم يصنفون أنفسهم على جماعات الإسلام السياسي التي كانت تعد الناس بأخلاق الرسالة الإسلامية وتضحيات أهل الدين وسمو العمل السياسي باعتباره نيابة عن الأمة في جلب المصالح ودفع المفاسد وحماية كرامة الناس وصيانة معاشها وتدبير شؤونها 
المختلفة!!!؟؟؟.
أربعة شهور وقوى الإسلام السياسي الشيعي تتصارع على من يكون رئيساً لحكومة العراق، فيما تتراكم الأزمات وتضعف الإرادة عن مواجهتها، خصوصاً أنَّ البلاد لن تكون قادرة على تسيير الحد الأدنى من موازنتها التشغيليَّة بعد أنْ انحدرت أسعار النفط الى ثلث قيمتها الفعلية عما اقترحته الحكومة المستقيلة في موازنتها المقترحة والمعلقة. ثمة من يعتقد أنَّ قرع طبول الحرب هو السبيل لمواجهة الأزمات وليفرض إرادته بقوة السلاح لا بمنطق العقلانيَّة السياسيَّة، هذا التيار يعتقد أنَّ الانسداد الحاصل في العمليَّة السياسيَّة لن ينكسر باتفاقٍ أو توافقٍ إنما بكسر الإرادات وتغليب جناحٍ على جناح ورؤية أمنيَّة في مقابل رؤية سياسيَّة، كل ذلك يجري وكورونا المستجد يطيح بأقوى الأنظمة ويعيد إنتاج النظام الدولي، ويتسابق المفكرون والساسة الى توقع المستقبل وفق دروس الوباء الأخطر، لكنَّ الكورونا في بلادنا لم يطح بأخلاقيات وأعراف السياسة العراقيَّة التي تفشل في إنتاج حكومة قصيرة العمر محدودة الأهداف.! ولم يعترف أحد حتى الساعة بأنه يحتاجُ لمراجعة منظومة القيم والأفكار التي تحركه، فأي فراغ وأي تيه أكبر من تيهنا؟.