قبل أربعين عاماً

الثانية والثالثة 2020/04/07
...

محمد عبد الجبار الشبوط
 

قبل اربعين عاما قال السيد الصدر: إن المشكلة الحقيقية التي يعاني منها العالم الاسلامي هي التخلف. 
وسبق لي أن عرفت التخلف بأنه خلل حاد في المركب  الحضاري، يصيب عناصر المركب بعضها او كلها، او منظومة القيم الحافة بها، لاسباب اجتماعية او طبيعية، خارجية او داخلية.
وقد اهتم الصدر منذ كتاباته الأولى بمشكلة التخلف، وبضرورة إطلاق المعركة الشاملة للقضاء عليه.
وحين تحدث عن "الشرط الأساس لنهضة الأمة" في 9 حزيران عام 1960 قال: ان الشرط الاساس لذلك هو "توفر المبدأ الصالح"، ويعني هذا الشرط ثلاثة امور هي:
1- الإيمان بالمبدأ
2- فهم المبدأ
3- تطبيق المبدأ (مجلة الاضواء العدد الأول)
والاسلام هو المبدأ الصالح، ولهذا كتب قبيل استشهاده:" فنحن حين نريد أن نختار منهجا او اطارا عاما لبناء الامة واستئصال جذور التخلف منها يجب أن نأخذ هذه الحقيقة  اساسا ونفتش في ضوئها عن مركب حضاري قادر على تحريك الامة وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلف، ولن تستطيع اي دولة ان تقدم هذا المركب الحضاري لانسان العالم الاسلامي سوى الدولة الاسلامية" التي تتخذ من الاسلام اساسا لعملية البناء واطارا لنظامها الاجتماعي". (منابع القدرة في الدولة الاسلامية)
وكان الصدر قدم تفاصيل فقهية ودستورية عن الدولة الاسلامية في نصه المفقود اغلبه وعنوانه" اسس الدولة الاسلامية"،  فنترك هذه المسألة الآن.
ولكن ماذا اذا تعذر اقامة الدولة الاسلامية لاي سبب من الاسباب، فما هو الموقف؟ هل ننسحب من المعركة ضد التخلف، ونترك الامة تعاني من آثاره ومضاعفاته المدمرة؟ هل نخلي الساحة لاصحاب الطروحات السياسية الاخرى لقيادة المعركة ضد التخلف حسب ما يؤمنون به من افكار؟ هل نبحث عن اطار آخر لخوض المعركة ضد التخلف وانقاذ الناس من شروره؟ ما هو الموقف؟
انتبه السيد محمد حسين فضل الله على هذا الاحتمال، فقال في 3 حزيران عام 1988:" إننا نطرح الاسلام، ولكن اذا لم تكن هناك ظروف يكون الاسلام هو الحكم فيها، فتعالوا نطرح دولة الانسان"، وكرر هذه الفكرة ثلاث مرات في غضون شهرين، وهذه اضافة مهمة، نفهم منها ان اقامة الدولة الاسلامية ليس غاية بحد ذاتها، انما هي" هدف طريق"، والغاية هي الانسان نفسه، والانسان هو العنصر الاساسي والقيادي في المركب الحضاري، وقد اتيح لي ان اجري حوارات طويلة مع السيد فضل الله بشأن الموضوع.
وقادني التفكير الطويل والقراءات الكثيرة الى الشرط الثاني من شروط الصدر، اي فهم المبدأ الصالح،  الى مقولة" الفهم الحضاري للاسلام"، ووجدت اخيرا ان بمقدورنا اللجوء الى اطروحة الدولة الحضارية الحديثة القادرة على اجتثاث التخلف من جذوره، وتحقيق السعادة للانسان، الذي اوضح الصدر انه الغاية من التنمية حين كتب يقول:" التنمية في خدمة الانسان وليس الانسان في خدمة التنمية"، ووجدت ان هذه الدولة قادرة على  تحريك المركب الحضاري بصورة منتجة للخير العام والاستمتاع بالثروات الطبيعية وتحقيق الرخاء والرفاهية، اذا في اطار منظومة قيم صالحة، ويمكن  بناء هذه المنظومة من خلال ما تراكم لدى البشرية منذ عصر الانبياء( حوالي 8 الاف سنة) والعصور التالية لانتهاء عصر النبوات (حوالي 1500 سنة) من القيم الاخلاقية والحضارية  التي تكاد تكون بمعظمها( ولا اقول كلها) موضع قبول  من قبل جميع البشر، مثل الايثار والتعاون والشراكة و حقوق الملكية والخير العام والحرية والمساواة والعدالة.
وباستعراض التجارب الانسانية، وجدت أن الدولة الحضارية الحديثة، يجب ان تقوم على أساس المواطنة والديمقراطية والمؤسسات وسيادة القانون والعلم الحديث، وميزة هذه الاطروحة انها عامة مشتركة، فليس فيها ما يمنع الديني من قبولها، وليس فيها ما يمنع  اللا ديني من قبولها،  فهي يمكن ان تشكل اطارا عاما  يجمع الناس في معركتهم المشتركة ضد التخلف، ومن ثم تحقيق التقدم في مجال تحسين حياة الناس واسعادهم بوصفهم مواطنين احرارا ومتساوين في هذه الدولة وامامها.
وبهذا نحدد العنوان العريض للمعركة ضد التخلف، وهو: الدولة الحضارية الحديثة.