الأزمة الماليَّة بأيدي علماء الاقتصاد

الثانية والثالثة 2020/06/09
...

محمد عبد الجبار الشبوط
 

تعاني بلادنا من ازمة مالية كبيرة عنوانها المعلن، حسب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، خواء خزينة الدولة من السيولة النقدية، وسببها المباشر اعتماد الدولة على مصدر واحد للنقد هو عائدات النفط، وسببها الاعمق هو التخلف الاقتصادي الذي هو عبارة عن خلل حاد في المركب الحضاري، والمركب الحضاري يتألف من عناصر وقيم، فاما العناصر فهي الانسان والطبيعية والزمن والعلم والعمل، واما القيم فهي مؤشرات السلوك، التي تحقق الرفاهية والرخاء للمجتمع وتحميه من العوز والفقر، وبما ان الدولة كلها فقيرة الآن، فهذا يعني ان الخلل في هذا المركب الحضاري، بعناصره وقيمه، خلل كبير جدا قد لا تملك الدولة ادوات معالجته على المستوى السريع والمنظور، الامر الذي يعمق من معاناة المواطنين، وخاصة اولئك الذين يحصلون على قوت يومهم بالعمل اليومي المباشر، واولئك الذين يعتمدون على رواتب الدولة فقط، واولئك الذين يعملون في القطاع الخاص، هذا من دون ذكر الاشخاص العاطلين عن العمل اصلا.
ليس العراق اول دولة تمر بمثل هذه الحالة. فقد تعرضت، مثلا،  الولايات المتحدة وبقية دول العالم، الى حالات اشد كما في «الكساد الكبير» Great Depression  الذي ضرب الاقتصاد العالمي في النصف الاول من القرن الماضي. “وهي أزمة اقتصادية حدثت في عام 1929م ومروراً بعقد الثلاثينات وبداية عقد الأربعينات، وتعد أكبر وأشهر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين، وقد بدأت الأزمة في الولايات المتحدة حيث بدأت مع انهيار سوق الأسهم الأميركية في 29 أكتوبر 1929 والمسمى بالثلاثاء الأسود.” وفي مقارنة طريقة معالجة الحكومة الاميركية للازمة، وطريقة معالجة الحكومة العراقية للازمة نجد ان الفرق الاساسي يكمن في ان الحكومة الاميركية وضعت الازمة تحت تصرف علماء الاقتصاد وعلى رأسهم العالم الاقتصادي البريطاني المعروف جون مينارد كينز (١٨٨٣-١٩٤٦) صاحب النظرية التي عرفت باسمه، اي النظرية الكنزية في الاقتصاد، وتبناها الرئيس الاميركي روزفلت، وانقذت العالم من ازمته الاقتصادية آنذاك، وتركز هذه النظرية على دور كل من  القطاع العام والقطاع الخاص في الاقتصاد،  أي الاقتصاد المختلط، حيث خرج كينز عن التقليد الراسمالي بعدم تدخل الدولة وفارق نظرية السوق الحر المطلقة (دون تدخل الدولة)  ووافق على  تدخل الدولة في بعض المجالات لحل الازمة.
بالمقارنة مع الحالة العراقية، نجد ان الحكومة، وهي هيئة سياسية حزبية تقوم على اساس المحاصصة الفئوية، تنفرد باتخاذ القرارات العلاجية للازمة، ولا تفسح مجالا كبيرا لعلماء الاقتصاد والمال ورجال الاعمال ذوي الخبرة الاقتصادية في اقتراح الحلول ووضع الخيارات والمشاركة باتخاذ القرارات المهمة التي تتعلق بحياة الناس وارزاقهم ومعيشتهم، هذا مع ان العراق يملك الكثير من الخبراء وعلماء الاقتصاد، وبمعايير ومستويات عالمية، من الذين يستطيعون اكتشاف افضل الحلول العملية المستندة الى رؤية اقتصادية علمية ثاقبة. 
تابعت عن كثب اللقاء التلفزيوني الطويل الذي اجرته قناة “العراقية” مع وزير المالية الدكتور علي عبد الامير علاوي، الذي اعرفه عن كثب واعرف امكانياته الاكاديمية والعلمية العالية التي لا غبار عليها، لكن الرجل عضو في حكومة لا تنطبق عليها هذه الاوصاف، لذا لم تخرج الحلول التي طرحها عن فكرة القاء عبء الازمة المالية على موظفي الدولة، ومع ان المطالب الشعبية تتركز على الرواتب العالية لذوي المناصب السيادية في الدولة، ومخصصاتهم، الا ان رواتب الموظفين في مختلف الدرجات الوظيفية المعروفة ليست من العلو ما يسمح باقتطاع اي قسم منها، وهنا يجب التمييز بين العدد الكبير من الموظفين والمتقاعدين بقوانين خاصة (مثل قوانين العدالة الانتقالية، ومنتسبي الاجهزة القمعية المنحلة وغيرهم)، وهذا يمثل عبئا كبيرا على موازنة الدولة، لكن لا يتحمل المواطن الفرد مسؤوليته، وبين ما يحصل عليه الموظف الفرد من  هذه الموازنة. لقد وعد وزير المالية بألا تمس رواتب الموظفين من دون الـ ٥٠٠ الف دينار وكأن هذا الرقم هو الرقم السحري الذي يوفر العيش الكريم للمواطن الموظف وأسرته. اختلف كثيرا مع وزير المالية في هذا التحديد، وقد ارى ان الرقم لا يمكن ان يقل عن مليون ونصف المليون دينار كحد ادنى، آخذاً بنظر الاعتبار مستوى غلاء المعيشة العالي في العراق، لكن مع ذلك ليست هذه هي المشكلة، لان تقليص راتب الموظف الحكومي سوف يؤثر سلبيا في مجمل العملية الاقتصادية وحركة السوق في البلاد، ولا يمثل حلا لازمتها، بل ربما يفاقم هذه الازمة. وايضا، مع ذلك، ليس هذا من اختصاصي، فلست عالما بالاقتصاد ولا خبيرا بالمال، انما المفروض بالدولة ان تدعو علماء الاقتصاد، وما اكثرهم، للبحث في حلول للازمة لا تمس رواتب الموظفين، على الدولة ان تنفتح على علماء الاقتصاد وتسمع لهم، فلعل بينهم من يمكن ان يكون “كينز العراق” القادر على حل مشكلاته، ويمكنها بعد ذلك ان تفكر بحل مشكلة التضخم الوظيفي في الدولة، من دون المساس برواتب موظفيها.