كارثة الكتلة الاكبر

الثانية والثالثة 2020/06/30
...

محمد عبد الجبار الشبوط
 
«الكتلةُ النيابية الاكثر عددا» تعبير دستوري ورد في المادة 76 من الدستور، حيث جاء في الفقرة (اولا) من هذه المادة: «يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الاكثر عدداً، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشرَ يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية.»
وهذه الفقرة هي احدى ثغرات الدستور، لانها تضع معيارا نسبيا وليس ثابتا لقياس هذه الكتلة. فهي اكثر عددا من غيرها من الكتل البرلمانية، لا غير! فقد تكون الكتلة الاكثر عددا مؤلفة من 50 نائبا مثلا اذا لم يحصل غيرها من الكتل على هذا الرقم.
وليس من السليم ان يعطى حق ترشيح رئيس مجلس الوزراء، وهو اهم منصب تنفيذي في الدولة العراقية، حسب المادة 78 من الدستور،  الى كتلة نيابية لم يحدد الدستور هويتها بشكل دقيق.
كان من المفروض، بل مازال من المفروض، ان يحدد قياس حجم الكتلة الاكبر صاحبة هذا الحق، بحصولها على الاغلبية المطلقة لعدد اعضاء البرلمان، اي النصف زائد واحد، كما هو الحال في الدستور البريطاني غير المكتوب. لان هذا هو الفوز الحقيقي في الانتخابات.
اما الفوز بحفنة قليلة من المقاعد النيابية لا تصل الى الاغلبية المطلقة، فهذا ليس فوزا حقيقيا بل هي حالة عليلة في الحياة السياسية. 
ولعلاج حالة عدم الفوز بالاغلبية المطلقة، حين تكون هي المعيار الحدي لتشخيص الكتلة الاكبر، فهناك حلان او مخرجان: اما اعادة الانتخابات، او -وهذا ما جرت العادة عليه- تشكيل حكومة ائتلافية من حزبين على الاقل للوصول الى الاغلبية البرلمانية المطلقة. وفي الدول الديمقراطية السليمة، فانه من النادر ان تسفر الانتخابات النيابية عن هذه الحالة بسبب طبيعة النظام الحزبي المعمول به في هذه الديمقراطيات، والذي ينطوي على عدد قليل من الاحزاب الرئيسة.
(حزبان في الولايات المتحدة، و 3 احزاب في بريطانيا).
اما في العراق، فلم يتوفر احساس بوجود هذه المشكلة سوى عند التصويت على حكومة مرشح الكتلة الاكبر. فسوف تحتاج الحكومة الى «الاغلبية المطلقة» لعدد اصوات النواب للحصول على الثقة. ولهذا، فان القائمة الانتخابية الطامعة بامتلاك حق الترشيح، (ويجب ان تكون شيعية حسب نظام الطائفية السياسية المعمول به في العراق)، تقوم بتجميع نواب اخرين حولها، لتكوين تحالف برلماني شيعي كبير يتفق على ترشيح رئيس مجلس الوزراء. وقد اثبتت التجارب ان هذا التحالف هش، مؤقت، سرعان ما ينفرط عقده بعد التصويت على الحكومة. وعبثا حاول زعماء هذا التحالف الوهمي تحويله الى مؤسسة سياسية دائمة ومستقرة.
وهنا نأتي الى بيت القصيد. لماذا لم يتمكن زعماء «الكتلة الاكبر» من تحويل تحالفهم الوهمي الى مؤسسة سياسية دائمة؟
يجب ان اكتب الجواب بصراحة مطلقة. والجواب هو الاطماع الشخصية والفئوية الضيقة جدا لزعماء الكتلة الاكبر. فقد اصبحت الكتلة الاكبر عبارة عن اقطاعيات سياسية يعززها الانتخاب بالقائمة، ويقودها «زعيم» مدمن، على شاكلة الرئيس مدى الحياة. وكان من العسير جمع كلمة هؤلاء الاقطاعيين السياسيين على مرشح واحد لولا تدخل القوى الخارجية والمرجعية. واصبح من باب المتفق عليه القول ان رئيس الوزراء العراقي لا تصنعه الانتخابات، ولا الكتلة الاكثر عددا، انما تصنعه النجف وواشنطن وطهران.
وفي الانتخابات الاخيرة، فقدت الكتلة النيابية الاكثر عددا وجودها وخسرت دورها، فتم الاتفاق على ترشيح عادل عبد المهدي بناء على اتفاق شخصي بين اثنين او ثلاثة من زعمائها، تجاوزا لمفهوم الكتلة الاكبر الدستوري على علاته.
وحين استقال عادل عبد المهدي، تحت ضغط المتظاهرين وسوء فهمه لخطاب المرجعية، اصبحت الكتلة الاكبر «خارج التغطية» تماما وتم ترشيح ثلاثة اشخاص على التتابع لرئاسة الوزارة، على طريقة لعبة الروليت الروسية، وكان من نصيب الثالث، وهو مصطفى الكاظمي، الفوز بالمنصب.
الان يحاول زعماء الكتلة الاكبر التنصل من  ترشيح الكاظمي، وهذا اعتراف ضمني بفشلهم وانتهاء دورهم السياسي، الذي قد يسدل الستار عليه في الانتخابات المقبلة في عام 2022، في حال لم تجرَ انتخابات مبكرة قبل هذا التاريخ، وهو الامر الذي يرجحه بعض المراقبين والمتابعين. يستطيع هؤلاء ان يشكلوا كتلة برلمانية معارضة الان.  لكن حتى هذا الخيار يبدو ضعيفا لعدم قدرة هؤلاء على الاتفاق حتى على المعارضة، فسوف يختلفون على رئاستها والناطق باسمها الخ. لقد فشل هؤلاء في ادارة انفسهم، والاخطر من ذلك انهم فشلوا في بناء دولة حضارية حديثة قادرة على خدمة المواطنين، الامر الذي افقدهم ثقة محيطهم التكويني. وقد اعترف احدهم بهذا الفشل، لكنه برر الفشل باسباب او سبب سخيف ولم يعترف بالحقيقة؛  بينما لاذ الاخرون بالصمت. آن لهم ان يتواروا عن الانظار. فقد انتهت اللعبة!