ساف من هنا وساف من هناك!

الثانية والثالثة 2020/07/14
...


محمد عبد الجبار الشبوط
 
بعد مئة عام من ظهور العراق، ما زلنا نتحدث عن بناء الأمة وبناء الدولة في العراق. وهما مصطلحان قد يقابلهما باللغة الانگليزية مصطلح nation-building؛ لكن مضمون المصطلحين باللغة العربية لا يتطابق مع مضمونه باللغة الانگليزية، لذلك أفضل استخدامهما باللغة العربية فقط، دون الوقوع بإيحاءات المصطلح الانگليزي. 
يختلف مصطلح بناء الامة عن مصطلح بناء الدولة، بقدر الاختلاف في المعنى الذي يتضمنه كل مصطلح على حدة، فإن الدولة غير الأمة في اللغة العربية، وبالتالي وعليه، فإني أتوقع أن تكون منهجية بناء الامة مختلفة عن منهجية بناء الدولة. الأمة تعني، بأبسط معانيها، مجموعة من الناس تشعر بالانتماء الى هوية واحدة، بحيث يكون بإمكانهم أن يستخدموا ضمير المتحدث الجمع "نحن"، وهم مدركون لما يجمعهم، ولما يميزهم عن الضمير الغائب الجمع "هم". الأمة هي نحن، اذا سلمنا بوجود روابط تجمعنا وتميزنا عن غيرنا. حين وضعت بريطانيا وفرنسا حدود العراق الحديث، كان هناك بشر في هذه الرقعة الجغرافية التي اطلق الاغريق عليها اسم  Mesopotamia  بالرغم من أن سكانها القدماء كانوا يسمونها بأسماء أخرى؛ مثل سومر وأكد وبابل واشور، وأطلق العرب على قسم منها اسم العراق. وحين جاء الملك فيصل الاول ليحكمها، بعد أن استورده زعماء ثورة العشرين من الحجاز، قال إنه لم يجد شعباً ليحكمه. لم يكن يقصد انه لم يجد بشرا يحكمهم، إنما قصد ما قاله حرفياً: "أقول وقلبي ملآن أسى؛ إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية خالية من أي فكرة وطنية...". يقصد إذاً انه لم يجتمع العراقيون على هوية وطنية واحدة. ولم تنجح الملكية التي نستعيد ذكرى سقوطها في 14 تموز من عام 1958، في خلق هذا الشعور المشترك بالهوية الوطنية الموحدة، برغم وجود عوامل كان يفترض انها ستساعد على ذلك. وتغلب بهذه الدرجة أو تلك الشعور بالانتماء الى هويات فرعية، يتناسب التمسك بها عكسيا مع بناء الانتماء الواحد.
أما الدولة فهي ذلك الكيان الكلي الذي يجمع الامة (الشعب) والارض والحكومة، في ما يعتبره القانون الدستوري أركان الدولة، مجردةً عن وصفها القيمي. وقد تتطابق الامة مع الدولة وقد لا يحصل هذا التطابق.
 لكن المهم أن الذهن ينصرف عند  استخدام مصطلح الدولة الى ما نعتبره مؤسسات الدولة والبنية التحتية لها، بدءاً من اسمها وعلمها ونشيدها الوطني وسلامها الجمهوري، مرورا بالدستور والسلطات الثلاث والمؤسسات التربوية والصحية والاقتصادية الخ.
بعد الفراغ من بيان معنى المصطلحين اقول إنهما يشيران الى علم دقيق له أصوله ومناهجه وقواعده، فضلا عن محتواه الذي يحدد وجهة البناء، سواء على صعيد الامة أو صعيد الدولة.
ومن الناحية النظرية يفترض أن عمليتي بناء الامة والدولة انطلقتا مباشرةً بعد اعلان استقلال العراق، الذي نال الاعتراف الدولي بدخوله عام 1932 الى عصبة الامم، التي كانت قائمة آنذاك قبل أن تحل محلها الامم المتحدة، لكن التطورات اللاحقة، سواء في العهد الملكي أو في العهود الجمهورية، لم تكشف عن رسوخ الشعور الوطني الموحد بـ (نحن)، وكانت الانقسامات العرقية والمذهبية والحزبية في المجتمع العراقي عميقة الى درجة استحلال الدم العراقي من قبل العراقيين أنفسهم قبل أن يأتي من غيرهم، فقد أظهر العراقيون من القسوة على أنفسهم، في ما بينهم، الى درجة تكفي لتآكل الهوية الوطنية المفترضة.
 وبعد التحرر من ربقة النظام الدكتاتوري، كان المؤمل ان يعاد بناء الدولة العراقية على اسس وطنية، تعترف بالهويات الفرعية من دون اضعاف الهوية الوطنية، لكن هذا لم يحصل بشكل يؤدي الى اقامة الدولة الحضارية الحديثة في العراق.
لم يحصل هذا لأسباب كثيرة لست في صدد بيانها الان، ماعدا القول بأن عملية بناء الامة والدولة علم، يمكن ان نطلق عليه اسم "الهندسة السياسية"، وهذا العلم ليس متوفرا بما يكفي. ولهذا عندما حللت عناصر مفردات مصطلح الدولة الحضارية الحديثة وجدت ان "العلم" بجميع اشكاله وفروعه يدخل عنصرا اساسيا في الدولة، وفي الحضارة، وفي الحداثة. وهذا ما ينبغي أن يكون كافيا لإلفات نظر المعنيين من الطبقة السياسية ومن المواطنين، الى اهمية العلم في بناء الامة والدولة، ويتفرع من هذا اهمية النظام التربوي الحضاري الحديث الذي تقع على عاتقه مهمة بناء الامة من جهة، وتنشئة المواطنين الصالحين الفعالين القادرين على المساهمة الايجابية في بناء الدولة من جهة ثانية، خاصة ان بين العمليتين علاقة جدلية مستمرة على قاعدة "ساف من هنا وساف من هناك".