أغرب راتب

الصفحة الاخيرة 2019/01/27
...

حسن العاني 
لعلَّ العام 1968 والذي اعقبه كانا الأشد ضراوة اقتصاديَّة في حياتي، فعلى الرغم من أنني معلمٌ براتب (45) ديناراً شهرياً، ولكن هذه الدنانير عليها أنْ تغطي إيجار البيت ومساعدة والدي ووالدتي ومصروف أسرتي واستقطاعات سلفة الزواج، وقبل ذلك أجور الدراسة المسائيَّة في الجامعة المستنصريَّة، ولهذا كنتُ أتدبر الأمر عبر منفذين، الأول: إعطاء دروس خصوصية في مادة اللغة الانكليزية (الطريف حقاً، إنني كنت أدرسُ اللغة العربية في الجامعة مساءً، أما صباحاً فأنا معلم لمادة اللغة الانكليزية!) والثاني: يتمثل في الاعتماد على حانوت المدرسة، حيث اقترض منه يومياً مبلغ نصف دينار، من دون أنْ أغفل منفذاً ثالثاً مؤقتاً، وهو الاشتغال عامل بناء في العطلة الصيفيَّة، إلا أنَّ تلك المنافذ مجتمعة لم تستطع انتشالي من محنتي الماديَّة، ولذلك تركت الكلية وأنا في المرحلة الثالثة، لولا وقفة كريمة من صديق نبيل أقرضني (60) ديناراً أعيدها له عند ميسرة!!
في العام 1970 التحق بمدرستنا معلمٌ جديدٌ اسمه (محمود الآلوسي) وكان كما عرفت لاحقاً يعمل رئيساً لقسم التصحيح في إحدى الصحف الحكوميَّة، ولأنه لاحظ بأنني أكتب وأنشر هنا وهناك فقد عرض عليّ العمل مصححاً براتب قدره (30) ديناراً فوافقت قبل أنْ ينتهي من عرضه، وفي اليوم الثاني ذهبت الى الجريدة لغرض الاختبار، حيث وضعوا أمامي مقالة مطبوعة وطلبوا مني تصويب أخطائها، ولأنَّ الرجل جزاه الله خيراً أراد مساعدتي، فقد همس في أذني أنَّ هناك (7) أخطاء، وأنهيت المهمة بسرعة غير اعتياديَّة، ولكنَّ الذي أثار استغرابه هو عثوري على (15) خطأ، وقع الطباع في سبعة منها (هي التي نبهني إليها السيد الآلوسي) بينما أخطأ كاتب المقالة في (8) بين إملاء ونحو وصياغة، لم ينتبه إليها المصحح الذي سبق له تصحيح المادة قبلي على ورقة أخرى بالطبع، وأذكر بأنَّ رئيس القسم انتابه فرحٌ غريب، وكأنه اكتشف بئراً نفطيَّة في ساحة منزله... وهكذا غادر مكانه ثم عاد بعد ساعة، وهنأني بمحبة واعتزاز لأنَّ رئيس التحرير اطلع على تفاصيل الاختبار وكان مسروراً، وأصدر في الحال أمراً إدارياً بتعييني ابتداءً من اليوم الثاني!
المصادفة التي عادة ما تحصل في الأفلام الهندية القديمة، إنَّ أمر تعييني صدر في وقت كانت فيه لجنة من الجريدة تتولى جرد الفائضين للاستغناء عن خدماتهم، وحين وصلهم أمر تعييني كنت بالتأكيد على رأس الفائضين لكوني آخر شخص معيّن، وهنا تتواصل أحداث الفيلم الهندي، فعندما تم تعميم الأسماء الفائضة على الأقسام من أجل إبلاغهم انبرى السيد (بيتر يوسف- رئيس قسم الدراسات) الى زيارة رئيس التحرير وقال له كما بلغني: (أنا لا أعرف حسن العاني ولم أره، ولكنني أقرأ بعض ما يكتب عندنا في الجريدة، وهو قلم جيد حقاً، ولأنَّ الجريدة تصرف 4 دنانير عن المقالة الواحدة فيمكن تكليفه بكتابة 7 مقالات شهرياً، كلفتها 28 ديناراً، ولما كانت الجريدة لا تصرف درهماً واحداً لكتابها الداخليين، فهذا يعني أنَّ راتبه الشهري من الناحية العملية ديناران فقط).. اقتنع رئيس التحرير.. وفي الحال أصدر أمراً إدارياً تمّ بموجبه استثنائي من قرار الفيض... كل ذلك في يوم واحد.. وبذلك بدأت أتقاضى رسمياً (30) ديناراً وعملياً (دينارين) فقط!!