الكرم والتكريم

الصفحة الاخيرة 2019/02/01
...

حسن العاني 
عرفت العرب في باديتها شيئاً اسمه (الكرم)، وكان حاتم الطائي ابرز عناوينه، ولعل هذه الصفة تقف في مقدمة التكوين الاخلاقي للشخصية العربية، ولم يكن الكرم مظهراً رسمياً  او حكومياً، بل هو سمة يتحلى بها هذا الفرد أو ذاك، وهذه المجموعة او العشيرة او تلك، وقد تجلت له صور عديدة، أهمها وعلى رأسها، كرم الضيافة، ثم كرم او اكرام من يسأل حاجة، واقترن الكرم في موروثنا الثقافي باحلى التعابير، من سخاء اليد الى طيب النفس، ومعلوم إن الاسلام والكتاب الكريم والاحاديث النبوية الشريفة، لم تنكر على عرب (الجاهلية) هذه السمة، بل امتدحتها ودعت اليها وشجعتها.
ما ان حل العصر الاموي، حتى بدأ الكرم بالتراجع لصالح التكريم الذي تبنته على وجه الخصوص، مؤسسة الخلافة، أو ما نتعارف عليه اليوم بالسلطة التنفيذية، وشاع فيما شاع تكريم الشعراء المداحين لمؤسسة الخلافة، والقادة والوجهاء ورؤساء العشائر والمتنفذين...الخ، الذين تجمعهم رابطة الولاء للسلطة والدفاع عنها، وقد استتبع هذا التحول المخجل من الكرم الى التكريم، إن الهدايا المقدمة بشتى انواعها ومسمياتها، لم تعد تصرف من ملكية الشخص الكريم، وانما من (بيت مال المسلمين) أي (خزينة الدولة)، وبات كرم الخلفاء يعتمد على أموال الدولة وليس على جيوبهم أو اموالهم، من دون أن يعني هذا بالتأكيد عدم وجود شخصيات تتصف بالكرم، وتجود من ملكياتها الخاصة.
التاريخ الحديث يقول لنا بالوقائع، إن العراق لم يشهد منذ قيام دولته قبل مئة سنة تقريبا، حالة من البذخ والافراط في التكريم، كما شهدها طوال المرحلة التي تولى فيها صدام حسين مقاليد الحكم (تموز 1979/ نيسان 2003) فقد رأينا الملك فيصل الاول على سبيل المثال لا يمتلك من المال ما يجود به – حين اقتضى الموقف ان يكرم شخصاً يستحق التكريم – فخلع ساعته اليدوية وتكرم بها، أما صدام فكان يمتلك خزينة العراق، ويهبُ منها ما يهب على هواه، وليس اتهاماً للرجل الذي يقف بين يدي ربه، فأن القاء التحية عليه يساوي (250) الف دينار، أما التحية مع الدعاء له بطول العمر والبقاء في سدة الحكم الى يوم القيامة فيقبض صاحبها (500) الف دينار، ولو رافقت التحية والدعاء قصيدة شعبية من اربعة ابيات فالثمن الكلي يصل الى مليون دينار، وبالطبع فأن القاء قصيدة عصماء بالفصحى، أو خطبة محبوكة او مقالة صحفية رنانة يبلغ ثمنها خمسة ملايين دينار وقد يصعد الى (مركبة) وفي نوبات التكريم يصل الى دار سكنية!! (لو اسعدني الحظ وعاد صدام الى الحكم، لأتحفته بالقصائد العصماء والخطب المحبوكة والمقالات الرنانة)!! ومعلوم ان هوس التكريمات انسحب على دوائر الدولة بدون استثناء، ولكن ما حصل بعد سقوط النظام، ان الحكومة ومؤسسات الدولة والرؤساء (باستثناء من حاولوا تقليد صدام) الغوا هذا التقليد نهائياً، والغريب انهم جميعاً لم يكتفوا بغض النظر عن التكريمات فقط، بل عن كل شيء، بما في ذلك عن الحرامية والمفسدين!!