زرتُ أول معرض دولي للكتاب في دمشق عام 1980م، وآخر معرض في القاهرة سنة 2019م، وبين الأول والثاني حضرتُ عشرات المعارض المحلية والدولية في بلاد عربية وإسلامية، وغاية ما فهمته أن فلسفة معارض الكتاب تقوم على تحقيق أهداف ثلاثة؛ الأول أنّها توفّر لزائرها أكبر كمية من الكتب في مكانٍ واحد، والثاني أنّها توفّر أسعارا مغرية لا تُنافس، عبر خصومات كبيرة لا يعثر عليها مشترو الكتاب إلّا في هذه المعارض، والثالث أنّها مناسبة للتعرّف عن كثب على المفكرين والباحثين والكتّاب والمثقفين والإعلاميين ممن يرتاد هذه الأماكن، ويشارك بالنشاطات الفرعية التي تشهدها هذه المناسبات في العادة.
بمناسبة مرور خمسين سنة على معرض الكتاب في القاهرة، نُقل إلى مركز المؤتمرات والمعارض الدولية، وهي منطقة مرتفعة وجميلة، الطقس فيها منعش، بعيدة عن صخب القاهرة وتلوثها وزحمتها وضجيجها، حديثة العمران لأنّها تقع في نطاق العاصمة الإدارية الجديدة. استغرق وقت وصولنا إلى المعرض أكثر من ساعة، تحوّلنا فيه إلى مرشدين للسائق المصري الذي يجهل المكان بالكامل، وأدلاء نسأل هذا وذاك إلى أن بلغنا المكان. أجل، هناك خدمة مجانية من مناطق متعدّدة في القاهرة إلى المعرض، ومنه إلى تلك المناطق مرة أخرى، لكنّها لم تحلّ المشكلة.
واجهتنا فخامة وأناقة وتنظيم ونظافة لا تُقارن بموقع المعرض بأرض المعارض في سنواته السابقة، لكن المشكلة إن كلّ هذه الإيجابيات لم تتحوّل إلى إغراء للإقبال على الكتاب وشرائه، قدر ما جعلت المكان فرصة للنزهة والاسترخاء وقضاء الوقت، خاصة مع وفرة المطاعم والمقاهي والاستراحات، التي خيّل لي من كثرتها أنّها ربما فاقت عدد دور النشر المشاركة!.
ثمّ جاءت الصدمة الثانية بالغلاء الفاحش (وليس العادي) للأسعار، وقد لا أبالغ أنني لم أرَ من بادر إلى شراء كتاب أثناء الساعات الطويلة التي أمضيتها هناك، وكأنّ الناشر ترصّد هذه المناسبة لمضاعفة الأسعار. ففي نطاق مقارنات بسيطة أجريتها بنفسي، على كتب بعينها تُباع في المعرض وفي سور الأزبكيّة الشعبي وسط القاهرة، رأيتُ الفارق المذهل. فواحدة من الروايات المشهورة اشتراها صديقي بخمسة جنيهات وهي تُباع بالمعرض بسبعين، وكتاب آخر عن القذافي هممتُ بشرائه، مبذول بالأزبكية بعشرين جنيهاً، في حين كان ثمنه بالمعرض بمئة وثمانين جنيهاً، وحين استبدّ بي الغيظ سألتُ الناشر عن السبب، فذكر أن طبعة الأوزبكية غير شرعية، مع أنّها هي هي، بورقها وأحبارها وغلافها دون أن تظهر عليها أي علامة للتصوير (الأوفسيت). وعلى هذا المثال قسْ ما سواه!.
وسط هذا الغلاء الفاحش، وغياب شبه كامل للكتاب الشعبي، ومنافسة المطاعم والمقاهي لدور النشر، وتفوّق العلاقات العامة والنشاطات الفرعية على إرادة الشراء، أخشى أن تكون معارض الكتاب قد تحوّلت إلى تجسيد لمقولة: المعرفة ضدّ المعرفة!.