صلاح حسن السيلاوي
هل قدم المثقف العراقي ما يدل على وفائه لصناع اول الحضارات من أسلافه؟، متى وقف الى جانب الأثر الرافديني المهم؟، أيوجد في منتجه ما يدل على استخلاصه لأهمية التاريخ والحضارات التي نشأت على أرضه؟، أيسعى هذا المثقف بعمق الى جعل هذه الحضارات بعضا من عناصر الحياة المعاصرة؟، كيف انتفع ايجابيا من هذه الذاكرة من دون الوقوع في فخ العيش في ماضوية التاريخ؟، أين ما يشير لذلك على مستويات عديدة كالسرد والشعر والفن التشكيلي والتمثيل والفنون التلفزيونية والإعلامية؟. نبحث عن اجابات لهذه الاسئلة وغيرها مع نخبة متميزة من مثقفينا عبر هذا الاستطلاع .
الإلهام وليس المحاكاة
الفنان التشكيلي ستار كاووش ذهب برأيه إلى أن الإفادة من التاريخ والحضارة العراقية القديمة يجب أن لا تتعدى شكلا من أشكال التحفيز أو نوع من الألهام الذي يقودنا الى خطوات تشير الى حاضرنا وتمدنا خطوات الى المستقبل، مؤكدا ضرورة أن لا نلتفت دائماً الى ما حققه الأجداد ونعيد محاكاته، بل علينا أن نستفيد منه بطريقة تمثل عصرنا وحياتنا وإبداعنا الآن. ماذا يفيدنا اليوم أن أعدنا رسم اللبوة الجريحة مثلاً أو أدخلنا الثور المجنّح بشكل مباشر في أعمالنا؟، هكذا سنقدم أعمالاً ساذجة بالتأكيد ولا ينتبه إليها أحد بجدية. على عكس ذلك ما قام به جواد سليم مثلاً حين تأثّر بالأختام الأسطوانية ووظف تأثيرها في أعماله بطريقة إبداعية أخّاذة بل مدهشة حين قدّم لنا نصب الحرية الذي يحيلنا الى الختم الأسطواني حين يُفرش على سطح من الطين، لكنه ذهب بنا بعيداً بعمل يمثل خلاصة العصر وفيه روح التجديد والمغامرة الفنية التي تفتح نافذة للمستقبل.
فكرة ملغومة
الشاعر محمد ثامر يوسف رأى أنّ المشكلة كلها لا تكمن في طريقة استدعاء هذا التاريخ وقصديتها، انما في عدم وعيه بصورة كافية، او فهمه كما يجب. ويمكن لاجل ذلك مقاربة مستوى المنتج الابداعي العراقي المعاصر المتحقق حتى الآن نتيجة لهذه العلاقة وكم هو متكرر، او بلا فائدة، على حد تعبيره. ويعني يوسف بذلك المنتج القاصر عن استلهام ما خلفه آخرون، آخرون، تساءل يوسف عن مدى انتمائنا الحقيقي لهم على هذه الارض، ثم لفت إلى عدم تحقق نتائج مقبولة بهذا المعنى، الا عبر نماذج نادرة استطاعت الى حد ما، التماهي مع هذه الفكرة عبر بعض الوسائل الابداعية.
وأضاف قائلا: في كل الاحوال، تبدو لي فكرة التاريخ نفسها "عراقيا على الاقل" فكرة معبّأة وملغومة بامتياز، مرة اخرى تبدو وكأنها عبئا ثقيلا على ذاكرة معاصرة طالما ظلت تتعرض لضغط هائل بسبب هذا التاريخ، لدرجة قد نبدو معها وكأننا غرباء عنه، فلم نتوصل "مثلا" حتى الى تخفيف درجة التباس هذه البلاد المرهقة مع تاريخها، بلاد لم تستقم حتى هذه اللحظة، رغم كل شبقها به.
غياب حضاراتنا أدبيّاً
الباحث حسن عبيد عيسى قال: انا لا أظن ان مثقفنا وفي لتاريخ وطنه وأمته.. ولعلي اختزل فكرتي في الاشارة الى غياب التاريخ الزاهر عن الأدب سردا ونظما.. نحن اصحاب اعمق واوسع واروع الحضارات، فأين روايتنا التاريخية؟.. وأين ملحمتنا الشعرية التي تحكي وتقص ماضينا؟.. في الادب الكلاسيكي ترى "بايرون" وهو شاعر انكليزي يحكي قصة الاشوريين شعرا.. وغيره كثيرون.. أيعقل ان شاعرا او ساردا بريطانيا او أميركيا يكون اكثر حرصا على تاريخنا منا؟..
ان من يرى نفسه ميالا للتاريخ فإنّه غير مخلص تمام الاخلاص لتاريخه.. فهو انتقائي ينتقي الاساطير والحكايات الخرافية وهذا توظيف لا يسمن ولا يغني عن جوع.. فلن يجعل المتلقي وخاصة الناشئة تتلهف الى مزيد فتذهب للاستزادة في المظان الاساسية لتاريخنا..
نعم ان هناك محاولات لعدد من الادباء لتوظيف بعض تاريخنا .. ولكن لي على هذا النفر ملاحظات جاهرت بها في كثير من محافلنا.. وهي اصنع ماشئت من الاحداث واختلق ما بدا لك من الشخوص وانظم ما رأيت وقل ما بدا لك.. لكن لا تسئ الى الحقيقة التاريخية..عليك ان تلتزم بها.. ولك في كثير من الأعمال الادبية المرموقة مثالا.. فكفاح طيبة وظف شخصيات تاريخية نعرفها ولكنه صاغ احداثا على قدر حجوم أولئك .. مع احترام حقائق التاريخ.. وكذلك فعل جرجي زيدان.. فليس من المنطقي ان تجعل اشور بانيبال سومريا على سبيل المثال.. ولا أن تجعل مدينة بابل تجمعا للفقراء .. أي ان الحقيقة التاريخية يجب ان تحترم اشاعة تداول التاريخ ادبيا وفاء يكمله احترام الحقيقة التاريخية.
جدليّة
الشاعر ستار زكم أشار إلى ان المثقف يجب ان يأخذ ماتقتضيه الضرورة والأيجاب من فعل التاريخ كي يوظفه في منجزه الإبداعي من جهة وتأصيل التأريخ في ذاكرة الفرد العراقي من جهة اخرى بعيدا عن المزاجية في فهم وتفسير الوقائع التأريخية . لافتا الى الأعمال الكبيرة التي انجزها جيل الرواد من المثقفين والتي عدها صورة وافية لاستلهام التأريخ في اعمالهم وتوظيفها بشكل متعدد الأوجه بعيدا عن الرأي الجمعي والعامي لفهم التأريخ كون المثقف هنا يقف امام مسؤولية في ضرورة درايته واستبصاره للتأريخ ونظرته المسؤولة في ترجمة التأريخ ونقله من صيرورة الفعل الماضوي المدون الى قراءة جديدة في صور واشكال شتى تبين مكامن وزوايا مختلفة للتأريخ .
ذاكرة عميقة
الفنان التشكيلي فاضل ضامد ضرب مثلا عن المثقف العراقي موصفا إياه برجل في زحمة مكتظة بالاجساد المترهلة .. غايتة بعيدة المنال ، محاولا ان يخرج من هذا الترهل للوصول الى هدفه مشيرا إلى ان المثقف العراقي يشبه هذا الرجل لأنه يعيش وسط اكتظاظ بمستوى تجنب الوعي .. وأنه مازال يعيش محافظا على قدراته الذاتية بين دخلاء اصابتهم النزعة الوصولية بازاحة الواعي واستبداله باللاواعي .. وأضاف ضامد بقوله : مع كل ذلك مازال المثقف العراقي يحتفظ بذاكرة عميقة وهو مازال يخطط لبناء مستوى عالي الذكاء للحفاظ على الموروث من حضارات وتاريخ وكثيرا ما نجد كتبا ومناقشات واماسي لتوثيق شخصية المثقف كمحافظ على خلفياته الثقافية . وخلص ضامد في نهاية قوله الى ان المثقف العراقي ما زال يقرأ اكثر مما ينتج .