حسين السلمان
من هذا الفضاء الواسع، ومن هذا الصفاء المنبسط على المياه وهذه السماء الزرقاء، ومن لقطة عامة (فلاي كاميرا) يتقدم لنا فيلم ((بندقية الشرق)) للمخرج بهاء الكاظمي وسيناريو الكاتب مصطفى ستار الركابي وتصوير حسين كولي ومونتاج على البياتي، يتقدم بهذه المواصفات الدقيقة في الاستهلال حيث يعرض بداية تحمل العديد من التفسيرات والتوضيحات. هنا نتعرف على جغرافية المكان بضجيج الحياة فيه، ونتعرف على الشخصية الرئيسة التي تم بناؤها عبر حوار ايجازي غاية في الدقة الاقتصادية في استعمال الحوار.
القص
الكاتب مصطفى ستار الركابي يدرك مهامه في القص، فهو يضبط ادواته طبقا لمتطلبات السرد الصوري، وهو في غالب كتابته الجيدة يميل الى بيان قدرة الصورة في تلخيص أعقد الاشكاليات وأصعب المواقف الدرامية، لذا فانه يتفاعل مع عملية تفكيك الحدث وتطويع عناصره لتكون أدوات فاعلة في العملية الحكائية.
تبعث فينا الشخصية الرئيسة ( الممثل سامي قفطان )تاريخا تتعرش جذوره بذلك المكان الذي لم يكن موقع سكن فحسب، بل يتحول الى ما هو أهم وأبلغ من ذلك الشكل الخارجي له، فهذه العودة وعبر رحلة خطيرة تقطعها الشخصية ما هي ألا عودة وطن، فنحن هنا في متن الفيلم لسنا أمام أحجار وأخشاب يتعفن فيها التاريخ ، وليس هو مكان للذكريات والتاريخ، أننا هنا في قلب وطن أنهكته السنين المريرة بحروبها وخرابها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فالشخصية هنا تتحول من ذات فردية الى ذوات جمعية تعيش ذات المأساة وذات العذاب وذات التهجير ( سواء كان تهجيرا داخليا أم خارجيا )أنها المحنة التي تعم الجميع.
يتحدث الفيلم عن تاريخ عميق تمتد فيه جذور الشخصية، وأن هذا الفعل جعل المشاهد يستحضر مع حكائية
الفيلم كل ذلك التاريخ الطويل الممتد لأكثر من خمسين سنة، (والذي قدمه الفيلم بزمن سينمائي هو خمسة أيام). أن هذا الايجاز السينمائي كان عنوانا للقدرة السردية التي تجسدت في النص الذي اراه من أجمل ما كتب مصطفى ستار الركابي.
اشتغالات سينمائية
يدرك المخرج ( بهاء الكاظمي) مهامه فهو يخبرنا بالكثير عبر الحركة ( حركة الكاميرا ، حركة الموضوع ، حركة الممثل )فالطفل (عبد العزيز رعد )الذي يقدمه الفيلم وكأنه طارئ على عملية القص، سرعان ما تتضح الادلة على أنه ضمن بوتقة الاتصال الصوري، فهو يتحرك بتلك التلقائية الجميلة لنعرف قبل أن يقول الحوار في مشهد آخر من أنه مرسل وان عليه ان يكون يقظا وحذرا قبل دخول البيت لمتابعة أخبار اليهودي القادم من بعيد ليشاهد بيته العتيق .هذه الحركة ذات البعد السردي كثيرا ما نجدها عند المخرج والتي تتكرر طبقا لاشتراطات الحكي الذي أحكمت طريقته في تقديم الاحداث والشخصيات .يمكن أن نشير الى حركة الطفل في استعمال ثوبه حاجزا لمسك اليهودي .أن هذا تأكيد فكري تجسد عبر هجوم قوي ضد تلك العقول البائسة التي ترى في الاديان الاخرى ما ينتمي الى النجاسة .
اعتمد الفيلم على انتقالات زمنية ( من الليل الى النهار وبالعكس ) بصيغ أراها تنتمي الى مفاهيم الحداثة في السرد والتي استغلها الفيلم بدلالات صورية أغنت المفاهيم الفنية والفكرية واشير الى المشهد الذي بعد خروج الطفل في أول لقاء له مع اليهودي، أن الانتقال جاء متداخلا ما بين سرد صوري واستخدام دقيق لوظيفة الاضاءة التي اعتمدها مدير التصوير حسين كولي، حيث جسدت فاعلية الشخصيتين كما كشفت وحللت البيئة الداخلية للفيلم التي اعتمد عليها المخرج اعتمادا كبيرا. يقدم لنا حسين كولي قدرة استثنائية في جعل التصوير متساوقا مع بقية العناصر الابداعية الاخرى، انطلاقا من أن التجانس يجعل العملية الابداعية تسير عبر مجموعة خطوط تلتقي عند واحدة من ضرورات السينما وهي اكتمال الوحدة العضوية للفيلم السينمائي .ضمن هذه الوحدة الصورية يذهب المخرج الى معالجات اخراجية عبر استخدام اللقطة الطويلة التي يعمل عليها المخرج لأول مرة على عكس ما قدمه في فيلمه ( جاري الاتصال) . أن اللقطة الطويلة (استغرقت خمس دقائق) تعد من المعايير والخواص الخطيرة في الاخراج السينمائي، فهي بحاجة الى خبرة ودراية واسعتين وهي عادة ما يستعملها كبار المخرجين بعد تراكم الخبرة والتأمل. أجد أن المخرج أحسن اللعبة فاستطاع ان يملأ لقطاته الطويلة بأفعال مثيرة ومهمة قادرة على خلق تجانس مع المشاهد من دون ان يشعر بالملل أضافة الى الامكانية الادائية للممثلين (سامي قفطان والطفل عبد العزيز رعد). منذ عرفت الفنان سامي قفطان في أواخر الستينيات عندما قدم شخصية البخيل لمولير حيث أكد حضوره الفاعل كممثل مبدع ضمن مسيرته الابداعية الجميلة. في هذا الفيلم يستعيد اداءه الرائع وقد رايته يتفاعل بحب كبير مع الطفل المدهش في تجسيد دوره سواء كان حركيا أو صوتيا.
يتمتع الفيلم بعاطفة انسانية كتعبير عن تداخل الاحاسيس والمشاعر الانسانية التي تتمثل بتطور شخصية الطفل من شخصية سلبية التفكير (طبقا للموروث الفاسد) الى إيجابية العلاقة الانسانية التي وصلت حد تلاقي الارواح وهو يضع رأسه على صدر اليهودي الذي يحتضر.