تفّاحتان في كفّ واحدة

ثقافة 2019/02/20
...

محمّد صابر عبيد
 
تردّدَ في ثقافة الأمثال عندنا مثلٌ بليغٌ يتحدّث عن الكفّ الواحدة التي تُمسِكُ بأكثر من تفّاحة في آنٍ بتحدٍّ وعنادٍ، إذ يستبعدُ هذا المثلُ قدرةَ اليد على النجاح في ذلك مهما بلغَ صاحبها في غروره لعدم وجود مساحةٍ كافيةٍ في باطن اليد بوسعها أن تحتوي التفّاحتين معاً بنجاحٍ، أمّا لماذا اختار المثلُ (التفّاحةَ) ولم يخترْ فاكهة غيرها بحجمها كالبرتقالة مثلاً أو الدرّاق أو غير ذلك فهذا ما يحتاج إلى تأويل. 
ربّما يكون الإرثُ التحريميّ الدينيّ المرتبط بنزول آدم وحوّاء إلى الأرض وحرمانهما من الجنّة، بسبب تناولهما التفّاحة التي حرّم الله عليهما تناولها من دون باقي الفواكه هو الدافع الأساس لحضورها في شجرة هذا المثل، حتّى يتوازى معنى التحريم وعدم القدرة من جهة، والنتيجة التي يؤول إليها المعنى في طرفي المعادلة من جهة أخرى.
فمثلما كان تحريم التفّاحة على آدم والتمرّد على التحريم سبباً لحرمانه وحوّائِهِ من الجنّة، والهبوط إلى الأرض حيث الفساد وسفك الدماء، فإنّ الإمساك بأكثر من تفّاحة في يدٍ واحدةٍ سيكون سبباً لسقوط التفّاحتين معاً وفقدانهما، نحسب أنّ اختيار ثمرة التفّاحة لهذا المَثَل تبدّى من لا وعي المؤلّف/المؤلّفين وحقّق تداولاً كبيراً في وسط التلقّي، الذي يمتلك ذهنيّةً سرعان ما تُوجِدُ جدلاً عميقاً بين إغواء ثمرة التفّاحة وعقاب الحرمان.
يتصدّرُ إغواءُ القوّة قائمةَ الإغواءات التي تحيط بفضاء المثل ومقصده ودلالته، لأنّ الإصرار على الإمساك بتفّاحتين في يدٍ واحدةٍ في لحظةٍ واحدةٍ لا مبرّر له سوى إشهار القوّة والسيطرة والعناد على الإتيان بما لا يستطيعه الآخرون، وقد يرتبط بهذا الإغواء إغواءٌ ثانٍ هو إغواء الكسب إذ يرتبط الأمرُ بالحصول على تفّاحتين حين تكون اليدُ قادرةً على الإمساك بهما وإلّا فلا مناصَ من الاكتفاء بواحدةٍ بحسب قدرة تلك اليد، وثمّة إغواءٌ ثالثٌ هو إغواء التحدّي حين تكون في المشهد دائرة صراعٍ بين من يستطيع ذلك ومن لا يستطيع، فتذهب القضيّة نحو لعبةٍ تدخل في باب صراع الإنسان مع ذاته ومع الآخر لأجل إثبات منطق القوّة الذي فُطِرَ عليه وظلّ يحلم به أبد الدهر.
كنّا في طفولتنا المدرسيّة نقرأ عن مبدأ طبيّ يُدعى: (مبدأ تناقص المنفعة)، والمثلُ الذي يوردُهُ هذا المبدأ يُطبّقُ على التفّاحة حصراً دوناً عن بقية أنواع الفاكهة التي قد تصلحُ لذلك، إذ يقول المبدأ الطبيّ إنّ تناول تفّاحة واحدة يحقّق كامل الفائدة للجسم البشريّ في حين تناول تفّاحة ثانية يسهم في النزول بالمنفعة نحو أسفل الفائدة لتدخلَ في دائرة الضرر لا المنفعة، بمعنى أنّ النصيحة الطبيّة هنا تحرّض على تناول (تفّاحة واحدة) والابتعاد عن تناول (تفّاحتين) لأنّ الأمر سيتحوّل من مسار الفائدة إلى مسار الضرر، مثلما يُنتِجُ الإمساكُ بتفّاحتين في آنٍ سقوطهما معاً فيتحقّق الضررُ وتمّحي الفائدة.
تفّاحةُ آدم هي الأشهَر من تفّاحة حوّاء على الرغم من أنّ تفّاحة آدم (ظاهرة) في مشهد الحكاية وتفّاحة حوّاء (مضمرة)، لكنّ المنطق الذي يتحرّك على ضفاف الحكاية لا بدّ له أن يحدسَ أنّ الموضوع ينطوي على تفّاحتين لا تفّاحة واحدة، واحده لآدم وأخرى لحواء، إذ لا يمكن أن يتناول آدم التفّاحة المحرّمة وحدَه وتؤخذُ حوّاء بجريرته وتحمل عقوبته وتهبط معه من الجنّة إلى الأرض، لأنّ الله في (سورة النجم) يقول: (ولا تزرُ وازرةٌ وِزْرَ أخرى)، في الوقت الذي لا يمكنُ فيه أن نذهب إلى احتمال أنّهما تشاركا في تفّاحةٍ واحدةٍ، لأنّ الإغراء الذي دفع آدمَ لإهمالِ تحذير الإله لا بدّ أن يكون من المجازفة بمكان بحيث لا يكتفي بنصفِ تفّاحةٍ، وقد لا ترضى حوّاء وهي تغامرُ معه في هذا السبيلٍ بنصفٍ أيضاً، على النحو الذي يبرّر تأويل وجود تفّاحيتن في شاشة الحكاية، وبما أنّهما (آدم وحوّاء) مجدولان منذ وجودهما في مصيرٍ مشتركٍ واحدٍ فلا بأسَ من توجّه أيّ خطابٍ يخصّهما نحو صفةٍ واحديّةٍ تشملهما معاً.
اليد هي أهمّ وأبرز أدوات الجسد للقيام بالأفعال الصغيرة والكبيرة بمختلف أنواعها وألوانها ومقاصدها، وهي أداة الخطيئة حين يكون الفعلُ خارج حدود المسموح شرعيّاً، بها تناول آدم وحواء التفّاحة، وبها يجمع المثلُ التفاحتين في قبضة واحدة، فهل المقصود بـ (يد المَثَل) التي ليس بوسعها مسك تفّاحتين (يدُ آدم) في هذه المرجعيّة الحكائيّة المقدّسة؟ وأنّ المَثَلَ يشجّعُ على مسكِ كلّ تفّاحةٍ بيدٍ، تفّاحة بيدِ آدم وأخرى بيد حوّاء؟ ويمنع روح المغامرة والمجازفة والتجربة في إمساك تفّاحتين بيدٍ واحدةٍ؟ وأنّ سقوط التفّاحتين نحو الأرض حين تخفقُ اليدُ الواحدةُ في الإمساكِ بهما يناظرُ سقوط (آدم وحوّاء) من ظلِّ شجرة التفّاح في الجنّة على سطح الأرض، فيفقدان النعيم المقيم ليدخلا في شرك الدم والعذاب والصراع على المصالح الزائلة؟
تفّاحة حوّاء المضمرة أو الغائبة في قصّة آدم تحمّله إثمَ المغامرةِ في عصيان أمر الله وتناول التفّاحة المحرّمة، وليس ثمّة من يحمّلُ حوّاءَ ذنباً موازياً لا في الحكاية ولا في ما تترشّح عنه من تفسيرات وقراءات سوى أنّها تهبط معه إلى الأرض وتشاركه تحمّل العقوبة الإلهيّة وفقدان نعيم الجنّة، وهو ما يطرح سؤالاً مهماً حول إشكاليّة الذكورة والأنوثة في هذا المضمار، ولاسيّما حين يتحمّل الذكرُ الذنبَ كاملاً من دون شريكته الأنثى، وقد يذهبُ شيءٌ من التفسير في هذا المجال نحو اعتقاد استعداد الذكر لاقتراف الذنوب أكثر من استعداد الأنثى، على نحوٍ يعكسُ تفوّق نسبة خيانات الرجل قياساً بخيانات المرأة في الكثير من الأشياء التي يمكن أن ينطبق عليها مفهوم الخيانة.
الذهاب باتجاه قضم التفّاحة المحرّمة يمثّل خيانةً للعهد والميثاق بين آدم وربّه، مع أنّ آدم بِحُكمِ انعدام خبرته في مجال ثقافة العقود والمواثيق والطاعة والتمرّد قد لا يعي خطورة ما أقدم عليه من فعلٍ قادَهُ نحو الهبوط إلى صحراء الأرض عارياً من كلّ شيء.
ولعلّ الإغراء الذي تنطوي عليه التفّاحة هو إغراءٌ مؤنّثٌ بالدرجة الأساس، فالتفّاحةُ مؤنّثٌ وآدم (القاضمُ) رجلٌ، ولم تستطع حوّاءُ (الأنثى) أن تحجبَ رغبةَ آدم في التوّجه نحو أنثى غيرها (التفّاحة) كي يباشرها بفمه، والفمُ بوّابةٌ جنسيّةٌ مركزيّةٌ من بوّابات الجسد الذكوريّة والأنثويّة 
معاً.