{ترتر}.. بريق الحداثة وظلام القدامة

ثقافة 2019/02/26
...

شمخي جبر
 
 
يمكن قراءة رواية (ترتر) للقاص والروائي العراقي نزار عبد الستارقراءات متعددة ومستويات للتأويل والفهم كثيرة،اذ هي نص مفتوح للتأول والقراءة والاستبطان وليس نصا مغلقا على تأويل واحد يفرضه الكاتب على متلقيه.
للاسف إن معظم قراء رواية ترتر اقتصروا في القراءة على الرؤية التاريخية، وهذا احد أوجه الرواية وثيماتها،فقد تضمنت أفكار كبيرة لا يمكن اقتصارها واختصارها بالتاريخ والبحث في أحداثه وشخوصه وأبطاله وصانعي أحداثه،كلا في مجاله ودوره في الحياة السياسية والاجتماعية آنذاك.
رغم الجهد الهائل الذي قدمه الكاتب في الرجوع الى وثائقه ومرجعياته التاريخية، إلا نني اجزم انه لم يسع الى تقديم سرديات تاريخية لولاية الموصل وقتذاك، بل ليكون واقعيا في وصف الأمكنة، بل كان حريصا ليقدم لنا مشهدية سينوغرافية روائية مبهرة في وصف الأماكن والأزياء والإكسسوارات والملابس، وهو ما حرص عليه الكاتب
كثيرا.
كانت ولاية الموصل محل أطماع وتكالب القوى الاستعمارية نظراً لأهميتها الجيوستراتيجية، فهي تقع في قلب الشرق الأوسط وهناك تركيز عالمي عليها لموقعها الجغرافي الذي تتساوى فيه المسافات بينها وبين البحار (قزوين والأسود والمتوسط والخليج العربي).كما أنَّ هذهِ الولاية امتازت بموقعها المهم كهمزةِ وصلٍ بين ولايات العراق وولايات الأناضول وولايات الشام.
رواية( ترتر) تسرد أحداث تكليف السلطان عبد الحميد الثاني آينور هانز بانشاء صناعة نسيجية في الموصل بالتعاون مع الحلفاء الالمان , يتحدث السلطان لآينور,والمنحدرة من أم عثمانية تزوجت ضابطا ألمانيا ودخلت البروتستانتية ,ولكنها تخلت عنها بعد وفاة زوجها والتي  لم تتقبل الإسلام ولا أية ديانة أخرى. يقول السلطان عبد الحميد عن خوفه وهلعه من التطور الذي تشهده اوروبا (لقد وصل الانكليز إلى بلادنا  لأننا لا نملك الصناعات المتطورة  ولا الأموال ولا حتى القوة العسكرية الكافية . وإصلاحاتنا بطيئة  وعقليتنا قديمة) فهو يقدم رؤية واضحة عن واقع الدولة العثمانية المتخلف عن ركب الحضارة العالمية,مضيفا:(سياسات أجدادي مع البدو والعشائر كانت خاطئة . وأنا فشلت في تحويلهم الى فلاحين ,ولم أتمكن من إجبار العشائر على ترك عادات السطو والنهب .الاندماج الثقافي  مع أوروبا لم يعد في حب الأوبرا  والعزف على البيانو . الإمبراطور فيلهم الثاني طلب مني إدخال الكهرباء  إلى دولتنا العلية ,هذا الطلب  يجعلني اقلق كثيرا ,شيء مخيف هذا الذي يحدث  للعالم اليوم).
كان الامبراطور الالماني يسعى لمد نفوذه داخل اوصال الدولة العثماني المتهالكة  بوصفه حلفا يطمح ليكون وريثا لتركة السلطنة العثمانية فهو يعبر عن حلمه بوضوح (سأحمل الكثير من المشاريع  للعثمانيين  التي تلحقهم بالتمدن وتزيل التخلف عن أراضيهم الشاسعة .ستعلمهم ألمانيا كيف يستثمرون نفط الشرق (سأعلن وضع 300 مليون مسلم في العالم تحت حمايتي). 
حملت رسالة رفضها المجتمع لانها تتعارض مع قيمه ومعاييره الاجتماعية،كما عارضتها وعملت بالضد منها القوى المهيمنة التي تتضرر مصالحها ووجودها من نشر الرسالة التي تحملها (آينور)،(الانكليز شكلوا قبل سنوات شبكة من أئمة الجوامع يعملون ضد مصالح دولتنا )كذلك فأن( الانكليز يفهمون عقلية البدو والعشائر , يدركون قيمة إبقاء كل شيء على ما هو عليه) كان معظم الانكليز في الموصل حتى الذين يجمعون العفص  ويكبسون الصوف هم من خريجي اكسفورد وكامبردج. كما قاومها سدنة قيم التخلف والجهل والامية والخرافة (اصدر علماء الموصل فتوى حرمت على النساء استخدام أشعة اكس باعتبار ان عظام المرأة عورة مادامت الأشعة لا تتقيد بالكفين والقدمين).
.وساندتها اصوات كانت تشد من عزيمتها (كوني المرأة التي تؤمن بقلبها وافعلي ما يفترض بنبي ان يفعله)لكن كان الصراع مريرا بين المتمسكين بكتاب غاية الاتقان في تدبير بدن الإنسان  لرئيس اطباء الدولة العثمانية ابن سلوم صالح أفندي الذي ألفه في القرن السابع عشر وآينور التي جلبت  جهاز أشعة اكس يساندها البعض ممن يتعاون معها.
 
كانت تكرر  على مسامع احد مساعديها (شاؤول جلعادي) معبرة وبمنتهى الذكاء عن رؤيتها للتغيير، انها تريد من الناس ان يألفوا التطور ويروا البدائل بأعينهم ,وان تفتن نوازعهم بها حتى وان لم يقدموا على شرائها , فهذا كفيل بتحسين نسبة لامل في أرواحهم  ويمدهم بالمزيد من الاحلام ، كانت رؤيتها وحلمها تذهب الى(نحن نعلمهم الجدية, والدقة,والهمة,واحترام المهنة, واذا فعلوا هذا فسوف يزول  الغش ,والكسل,والكذب وبهذا تنشأ الحضارة) هذه المرأة الملتبسة التشكل بين أنوثتها وطموحها الذي يمتزج بين تجاذبين هما مصالح السلطان العثماني وسلطنته البالية ومصالح المانيا وطموحها.
تتساءل آينور:ما مشكلتهم مع جهاز أشعة اكس,فيجيبها الشيخ سعد الدين :يزعجهم  لأنهم يخافون زوال نعمة الجهل ..يزعجهم لان هذا الجهاز سيبهر الناس , وعندها ستصبح خرافاتهم بلا قيمة .
تتواصل في تحديها للواقع ومرارته يساندها شركاء يؤمنون بالتغيير والتطور والتحديث يقف في مقدمتهم مدير المستشفى الذي كان يكرر  على مسامعها (لسنا بحاجة إلى أشخاص يتشبهون بالأنبياء , هذا عصر العلم يا آينور هانم عصر التعليم ,علينا التفكير بالطريقة نفسها التي  فكر بها الرجل الذي صنع جهاز الأشعة,حكايات الطيبة والرحمة والشهامة والرجولة والكرم تصنع الكسل وتبقي الجوع على ماهو عليه ويشيع التخلف , الله يتجسد بالعلم  لا في اتباع السلف الصالح).
كان سلاح المواجهة ثقافيا يمارس ادوار التعبئة لدى الطرفين،اذ استخدم اعداء التحديث سلاح الدين والتقاليد والقيم الاجتماعية وارث الاجداد ففي خطبة الجمعة اعلن الامام في ذروة التصعيد والتعبئة الشعبية(أن الفرنجة لم يكفهم  هتك المقدسات وسفك الدماء فراحوا يصورون مالا تدركه الأعين,ويظهرون ما كساه  الله بالحم .. وحذر من هذه الصورة الشيطانية التي توقع المسلم في معصيتين مهلكتين اولاهما التصوير الذي هو من صفة الخالق المصور ,والثانية التكهن بالموت قبل وقوع،ان جهاز أشعة اكس فتنة روغنتغن الكافر سيتلقى جزاء مخزيا,وسيحشر يوم القيامة مع ابي جهل).
انه الصراع بين الحداثة والقدامة كما يقول كاتب الرواية في واحد من حواراته ,فقد كان محور الصراع كما قالت آينور للطبيب مدير المستشفى الذي اقامته في الموصل (أنت أحرقت كتاب الإتقان بينما هم احرقوا جهاز أشعة
اكس).