فالح عبدالجبار .. علامة عراقية فكرية لا يمكن نسيانها

ثقافة 2019/03/03
...

 
 
توفيق التميمي
 
عام مر على غياب فالح عبدالجبار ، غياب شغلتنا عنه هموم الايام.  وها نحن نقلبها فنستعيد واحد من مفاخر ثقافتنا العراقية وابرز رموزها الفاعلة في حقل المعرفة الاجتماعية  والثقافية والانسانية لاسباب عديدة 
منها:
اولا:  ان فالح عبدالجبار له مشروع  علمي عقلاني سيسيولوجي بملامح خاصة ونكهة مميزة في المنهج والاستنتاج مختلف عما سبقه ومؤسس لما سيلحقه ،لكنه لم يتنكر لما سبقه من علماء ورواد الاجتماع العراقيين ويدين بالفضل لجهودهم كعلي الوردي والعالم الدكتور عبدالجليل الطاهر وحاتم الكعبي .. كان منهجه ماركسيا علميا واكب الحداثة العلمية بلغتين وثقافتين تمكن من خلال ذلك ان يقدم رؤية جديدة في قراءة احداثنا الاجتماعية والتاريخية والسياسية اضافت واكملت ما بدأه رواد علم الاجتماع الاوائل في العراق 
بجدارة .
ثانيا :قدم فالح عبدالجبار نموذجا مبكرا لمثقف متمرد على نسق الايدولوجيا وهيمنتها الحزبية وقدرتها على ترويض المثقف وشغبه ومغامرته الفكرية ،فهو بدأ قوميا بعثيا وانتهى مفكرا ليبراليا قبل ان يغادر نهائيا بيته الذي استظل فيه كثيرا وهو بيت الحزب الشيوعي، وفي جميع هذه المراحل لم تتمكن تلك الاطر الحزبية من مقاومة روح المفكر العالم الذي يشاغب ويتمرد ويغامر لينتج فكرا خلاقا 
جديدا .
ثالثا:  قدم فالح عبدالجبار في تجربته الشيوعية ومشاركته الميدانية في حرب الانصار ضد الدكتاتورية الصدامية ،نموذجا للمفكر المقاتل بقلمه وبندقيته في ثنائية قلما تجتمع ، املتها ضرورة اللحظة العراقية الحرجة وخيار المثقف الثوري الذي مثله فالح عبدالجبار كقوة رمزية لمعادلة سيرة الخيبات المريرة والهزائم المتوالية التي منيت بها المعارضة العراقية طيلة وجودها، فكان للمفكر الفعال الوطني موقف يتجاوز التنظير نحو الفعل الميداني، في تجربة الانصار، كما قدمه مثقفون اخرون ابدعوا في حقول الثقافة والبندقية 
معا.
رابعا:  كان فالح عبدالجبار علامة فكرية فارقة لا يمكن تخطيها في الاستشارة والفعل السياسي في بناء التجربة الجديدة بعد تحقيق حلمه بسقوط نظام الدكتاتورية التي سرقت من عمره واصحابه الشيء الكثير، فرغم زهده بالمناصب والمواقع والعروض المغرية من قبل قوى وتيارات حكمت بعد سقوط  الديكتاتور صدام، الا انه رفض كل هذه العروض مفضلا دوره كمفكر وموجه ستراتيجي للعملية السياسية ورموزها فلم يبخل باستشارة لجهة سياسية او حكومية تقدم الخير والمنفعة لبلده العراق .
خامسا : احد ملامح مشروع فالح عبدالجبار الذي رأى النور  بعد الدكتاتورية كان تاسيس  مؤسسة الدراسات الستراتيجية في بيروت وشهدت معه بعض لقطاتها العراقية الجميلة ومكابداته اليومية في اختيار مكان جميل يطل على البحر في اجمل مناطق بيروت (الروشة) مستثمرا إعانات الاتحاد الاوروبي لمؤسسته في تجميع الطاقات الشبابية العاملة بميدان البحث والفكر والابداع. 
كان يحرص على تنويع دوراته الشبابية تجنيسا وانتماء، فكانت تجتمع الشيعية بالشاب السني والأيزيدية بالشاب الشيعي والمسيحية بالشاب المندائي تحت خيمة مركز الدراسات الذي كان يرعاه ويشرف عليه فالح بنفسه وهو في غاية السعادة بان بذور احلامه ستتفتح بشباب حالمين باحلامه. 
كانت مبادرته تلك مبادرة عراقية صميمية كان لابد لها ان تتواصل بتمويل عراقي وليس خارجيا وان احياء هذا المركز هو واحدة من ديون العراق حكومة وشعبا لفالح عبدالجبار المؤسس والراعي الاول واطلاق اسمه تخليدا ووفاء على مركزه الذي 
أسسه.
سادسا: فالح عبدالجبار يمتلك اخلاقيات الانسان الكوني بتواضعه العلمي وروحه المرحة وصلابته ضد مواقف الانحطاط في السياسة والثقافة، محب للنكتة مستمع اليها صديق ودود بكل معنى الكلمة يسأل عن شاردة وواردة اصدقائه الذين افترق عنهم لظروف قاهرة. 
تعلمت منه شخصيا أن أتأنى في مشروعي بالتاريخ والتوثيق واستند للادلة واتبع منهجا علميا او أن أزاوج بين اكثر من منهج كميزان لكتابة التاريخ واعادة صياغته.
كنت قد التقيته قبل ايام من مغادرته في مدينة السليمانية كان مرهقا وعلامات الاجهاد واضحة عليه لدرجة انه كلفني بقراءة الكلمة التي اعدها للمؤتمر الذي التقينا من اجله لكنني اعتذرت فقرأتها شابة كردية نيابة عنه، كان ذلك مؤلما، وانا ارى انفاسه تتصاعد والشحوب يلون سحنته الجميلة ويرسم عليه اشارات موت مبكر سيفجعنا 
جميعا.  
لذكرى هذا الصديق العالم اقدم هذه الكلمات والوصايا فلعلنا نسترجع فالح من وحشة غيابه لحضوره البهي الفكري والمعرفي 
والانساني.