يعيب " البعض "على العرب بأن مسرحهم قد تم استيراده من خارج الواقع العربي ويراه بانه بدعة وكل بدعة ضلالة!
وهو ليس رأيا خاطئا فحسب، بل إنه يمتاز بقصر نظر فاضح وعدم قراءة التاريخ بشكل صحيح، إذ أن تعقيبات النصف الثاني من القرن العشرين أثبتت أن الشعوب التي سكنت المنطقة العربية قبل الميلاد قد تركت آثارا تدلل على ممارستها هذا النوع من الفن سواء بشكله الديني ام باطاره وأفكاره الدنيوية، وخير مثال على ذلك ما تم العثور عليه في اور كنصوص يبدو انها كتبت بطريقة مسرحية ومنها نص " رثاء اور "، الذي قام بإخراجه الفنان الراحل عوني كرومي في منتصف سبعينيات القرن الماضي. والمسرح البابلي نسبة الى مدينة بابل العراقية، ما زالت اثارها شاخصة وتعد بابل من أعظم المدن التاريخية في العالم ومن أقدم المواقع الأثارية على الإطلاق كونها ليست موقعاً اثارياً فحسب وإنما ورد ذكرها في القرآن واعتمدت كتب التوراة والإنجيل على تأريخ بابل وآشور. ويوجد فيها قصر التمثيل (المسرح البابلي)، الذي بُني في زمن الملك الأغريقي الاسكندر الكبير وبُني من طابوق برج بابل عام 331 قبل الميلاد واستمر على صدى الأزمان والعصور.ولم يتوقف الأمر على سكنة بلاد وادي الرافدين، إذ عرفت كل من مصر وسوريا وشمال افريقيا المسرح في سالف الزمان، وهناك شواهد عديدة تدلل على وجود فن المسرح في مصر القديمة منهما برديتان محفوظتان في برلين والمتحف البريطاني وفي كليهما توجد ملاحظات وإشارات حول الاخراج المسرحي.
وهناك جدل ليس مهما جدا يثيره البعض عن اسبقية الفن المسرحي، هل هو اغريقي ام ذو منابع عربية؟! وأعتقد أن هذا الجدال ليس ذو اهمية بعد مرور قرون على بدء الحضارات الإنسانية! اما الرد على من يرفض المسرح باعتباره " بدعة مستوردة " نقول له بأن هناك العديد من المستلزمات المستوردة نستخدمها في أساسيات حياتنا اليومية ومنها: السيارة والطائرة والانترنيت ومختلف الانجازات العلمية والطبية، فلماذا نقبل بهذه ونرفض الاخرى؟!
اصبح لدينا اليوم مسرح ذو ملامح محلية على امتداد البلاد العربية من اقصى الشرق، العراق، الى اقصى الغرب، موريتانيا.
منذ مطلع القرن الماضي بدأت انطلاقة النشاطات المسرحية في منطقتنا، وتم لاحقا عقد عدد كبير لمهرجانات مسرحية محلية ودولية، انطلق بعضها وتوقف بعد حين، وانتهى البعض الآخر ليصبح صفحة في أرشيف الابداع العربي، لحين ولادة " الهيئة العربية للمسرح " في 2007، التي اسسها رجل محب للمسرح من خلال فهمه العميق بان "الرجال زائلون والمسرح باق" وهو حاكم الشارقة د. سلطان بن محمد القاسمي. وانطلقت نشاطات هذه الهيئة منذ 2008، بتقديم الدعم للمهرجانات المسرحية المحلية في مختلف الدول العربية بالاضافة لتنشيط المسارح المدرسية، وتستمر الهيئة بعقد مهرجانات سنوية للمسرح العربي في العواصم العربية بالتناوب، وكان آخرها مهرجان المسرح العربي بدورته الحادية عشرة بالقاهرة في الشهر الأول من هذا العام.
فهل هناك مميزات أو قواسم مشتركة بين العروض المسرحية التي يمكن لها أن تساهم بوجود "مشتركات" في هذا المهرجان الاخير؟!نعتقد أنه بالإمكان تلمس بعض تلك المشتركات في هذا المهرجان ومنها:
١. الزمان والمكان الافتراضيين أو ما يمكن تسميته ب "الزمكان الكوني"، اي اننا لا نستطيع تحديد المكان ولا الزمان الذي تجري فيه أحداث المسرحية بالرغم من وضوح القضية التي يعالجها بترحيل تلك الأحداث على الواقع اليومي المعاش. وهذه الطريقة فيها جانبان اولهما : سبق وأن استخدمت مرارا في العديد من البلدان التي ينقصها حرية الرأي والتعبير، وثانيهما: الانطلاق نحو " شمولية " الحدث الذي يمكن أن يمنحه معنى انساني عام دون التفريط بخصوصية ومحلية هذا الحدث.
٢. الموسيقى والغناء والرقص: معظم الأعمال المسرحية التي عرضت في المهرجان استخدمت الموسيقى والرقص والغناء الحي على " الخشبة " وهذا يؤكد نقطة إيجابية بجانب الممثل العربي الذي يحاول أن يحاكي زميله الأوربي بامتلاك قدرات جسمانية وصوتية لا بد من توفرها بالفنان الذي يحاول أن يجعل من التمثيل حرفة له.
٣. الجوقة: لفترة زمنية ليست بالقليلة اختفت الجوقة من الاعمال المسرحية العربية، بما فيها الاحترافية، لكن هذا المهرجان أكد وجود الجوقة في أكثر من عمل مسرحي، وهي محاولة محمودة لعودة "البطل" الجمعي، الذي يتناول دوره بين مراقب للحدث وبين التأثير فيه. وقد اعتمد بناء المسرح الكلاسيكي الأول كثيرا، في دولة أثينا الديمقراطية، على الجوقة باعتبارها الصوت الحقيقي المعبر عن تطلعات الشعب.
٥. الفن والسياسة: لم تخلو كل المسرحيات المعروضة في مهرجان " الهيئة " الاخير في القاهرة من الموضوعة السياسية سواء تورية ام بشكل مباشر، واتخاذ موقف واضح من السلطة المتسلطة على رقاب أبنائها أو من الحاكم الفرد! وهنا تتحقق غاية سامية في أداء المسرح العربي باعتباره الوسيلة المثلى لإعادة انتاج الوعي عند المتلقي ولكن بطريقة فنية تمتزج فيها كل العناصر المؤثرة، إذ لم تعد مهمة المسرح " التطهير " فقط! فلم يعد كشف الواقع هو الهدف بحد ذاته، إذ لا بد من تغيير هذا الواقع بما ينسجم وتطلعات شرائح المجتمع المتضررة من واقع سياسات انظمتها، ولكي تنجز هذه المهمة فلا بد من الابتعاد عن النفور الذي سبغ العلاقة، عبر عقود طويلة، بين " المثقف - الفنان" و" السياسي " وردم الهوة بينهما من أجل بناء مجتمع حضاري.