وعي التجديد

ثقافة 2019/03/16
...

 باسم عبد الحميد حمودي 
 هذا كاتب جاد يستحق أن نقرأ له ونهتم لأنه يضيف الى جهده السالف جهدا جديدا  يميزه ،بعيدا عن (كتل ) الاسماء الجديدة التي نجد أن معظمها دخل معترك السرد دون رسالة خاصة ولا مقدرة. اشتغل أنمار رحمة الله على منجزه بوعي يجعلك تدرك أنه يبني تجربة جديدة مغايرة منذ(عودة الكومينداتور) الى (وأسألهم عن القرية) وصولا الى(بائع القلق ) المجموعة القصصية الثالثة التي صدرت في العام الفائت.
لست هنا في معرض تقويم كلية التجربة السردية لرحمة الله فما زالت للتجربة تشكلاتها التي تأخذ أطارها الفني الخاص المغاير للأقران الذين بدأوا ركضة النشر قبله أو معه، ولكني أقف عند التجربة السردية الاخيرة لهذا القاص التي نشرها في جريدة (الصباح ) الغراء يوم الاحد الثالث من آذار 2019 تحت عنوان(محلة العفاطين).
العنوان مستفز تماما والراوي العليم تقليدي تماما  فهو موظف استنساخ يسكن محلة (هادئة) ويجلس في مقهى الطرف متأملا الناس ،اذ لم يثر انتباهه بين الجالسين المعتادين(سوى الرجل الستيني ذي الشعر الأشيب يجلس في المقهى من دون ان يكلمه أحد يحمل كتبا في أغلب الأحيان)
حيث قرر الراوي العليم البحث في تفاصيل حياة هذا الرجل الصامت  الذي يبدو خارج سرب التقليد والاعتياد بين شخوص المقهى.
هنا يشارك صاحب المقهى الراوي العليم كصوت آخر يرسم ملامح تجربة (الرجل الصامت) الذي يطلق عليه رجال المقهى مصطلح (الفهيمة)، ذلك أنه مثقف وفاهم لكنه لايتحدث اذ هو 
أصم!
يتسلسل بنا القاص أنمار رحمة الله ليسرد بقية تفاصيل هذه القصة التي تدور أحداثها هذه المرة بين الرجل الاشيب الاصم وبين مجموعة من الشبان الذين اعتادوا منذ فترة الجلوس اسفل غرفته  التي اختارها في داره.
اختار القاص راويا ثانيا هو صاحب المقهى ليروي للراوي الأول ما جرى حقا وجعل (حسيب) الفهامة قارئ الكتب الصامت يدخل في نزاع متصل  مع الشبان الذين اعتادوا الجلوس أسفل غرفته والتباري فيما بينهم باطلاق (العفاط ) واحدا بعد الآخر والعودة مرة اخرى الى مزيد من أطلاق هذه الأصوات الداعرة المرحة تسلية لانفسهم من هموم الدنيا، لكنهم زادوا العيار عندما انتهرهم حسيب وطلب منهم الابتعاد عن صومعته وغرفته لكي يتمكن من القراءة أوالراحة.
زاد الشبان غيهم وملؤوا الفضاء (عفاطهم) كل ليلة نكاية بالفهامة  حسيب، هنا يقوم بمحاولة قانونية لمنعهم  أذ يذهب الى رجل النظام في المحلة ليشكو 
أذاه.
كانت المفاجأة التي دفعت السيد حسيب للانقطاع عن الاصوات  في العالم هي قيام الضابط – رجل النظام بالعفاط أمامه ساخرا.
 هنا  أدرك هذا (الاوت- سايدر) الحديث أن ممارسة الأنفصام المقصود عن العالم هي وسيلته الراهنة للاحتجاج  على قطيعية الرغبة في الايذاء، فعمد الى وضع التيزاب في أذنيه ودخل عالم الصمت الأبدي بأرادته.
هكذا حل الاستاذ حسيب علاقته بالمجتمع اللاهي، في وقت يئس الشبان بعد هذا من استفزازه بأصواتهم المنكرة فغادورا شلليتهم .
لقد قط عندهم مبدأ مقاومة الاذى وصار حسيب لايبالي بهياجهم الليلي فأفترقوا، وعاد المقهى والمحلة هادئين تماما.
خسر حسيب علاقته بحاسة واحدة لكنه اكتسب راحة العقل، وبذلك نجح انمار رحمة الله في رسم تجربة انسانية موجعة  في البحث عن حرية الفرد وسط جموع ضائعة.