منزل التمر وعاجن القمح

ثقافة 2019/03/22
...

علي المرهج
التمر والقمح دلالة الكرم عند العرب، وهما مفردتان لطالما تكررتا في كتابات عبدالحسين بريسم الشعرية. إن هاتين المُفردتين تدَلَان على الصبر والكرم في معجمية الاجتماع العراقي التي تعلَمها البريسم من أبيه فما قدر إلَا أن يكونا من أبجديات عيشه رغم شظف العيش.
عبدالحسين بريسم شغوف بهذا الأب عطر الجنوب وطيبته المتوارثة من تاريخ الحضارة الميسانية أو “مملكة ميسان” أو “ميشان”، يُخاطبه بقوله:
أنت نهر/ وقمح الحياة / وباب الجنة
الجنة يضعها بوابة للأب كما هي للأم، فكلاهما يصنعان حياة للأبناء من دون انتظار لحصاد ولا جني لثمار.
في أرض ميسان العراق: نخلة وسُنبلة، النخلة الأم عطايا الإله في زمن القحط، وللسُنبلة جنيَ لحُنطتها، وبعد الجنيَ هُناك ذراعان مسَهما الألم ولم يتناس الأمل: إنهما ذراعا أم عراقية:
توقظ الشمس / سدَرة ونخلة...
شمسٌ سومرية / تخبزين حنطة بكرا / أشبعتني رائحة يديك/ قبل رائحة الخُبز/ أوقدَت في دفاتر قلبي/ شعرا/ لم يسعه فضاء مدينتي/ 
“فإن أكون عراقياً يعني:
أن يتسلل النخل عضامي...أن أعرف الوقت يأتي من رائحة النسيم الذي يأتي من النهر...أن أعرف هذه العيون الكحيلة هي أجمل ما في العالم...أن أتذكر ليالي الشتاء عندما تنبعث رائحة الأسلاف من الطين”... هكذا يكتب الشعر نثراً (نصير فليح) ليتعالق نصه مع نص عبدالحسين بريسم في رسم صورة الأم العراقية.
من عطايا القدر أن تكون لك أمٌ، فمن فقد أماً كان يتيماً، فلا يُتم في فقد أبٍ، إنما اليُتم يُتم الأم. هكذا هي أجسادنا تنتظر يداً طاهرة مثل يد أُمٍ تُمرر أصابعها بين ثنايا خصلات البنات، وتُمسدُ وجوه الأبناء بحنين وآهات:
كيف أكتب لك شعراً/ وأنت شعراً جعلك الله/ أجمل قصيدة تمشي على قدمين/ وعكازة من تعب
(قرط النُعاس) عند البريسم تمرٌ وحنطةٌكقرطين في أذنيَ أمٍ عراقية جنوبيةٍ سومريةٍ (عكازة من تعب) لا تملَ الكرم لأنه بعض من فيض قرطيها والتعب.
لا يوضع القرطُ في الأذن دائماً، فأحياناً يوضع في الحلق، وحلق أمهاتنا هيل وعنبر  ودعوة محبة وطريق أخضر، يدعو القاصي والداني لكل جميل في نُطق الشفاه، وكل جميل في كرم الترحاب من جبين طبعه الكرم مُحيَاه معسولٌ صادقٌ جنوبيٌ أسمر.. “قرط النعاس” كرم وتدليل للأهل والقادم من الأقارب والغرباء من الذين ضاقت بهم السُبل يبحثون عن ملاذ فيه كُرماء، ولا ملاذ أحنَ من ترحيب أمهاتنا الجنوبيات والعراقيات وصدق ترحيبهن وفيض الكرم.
البريسم يهيم بـ “العزف على وجع الكلمات” ليجمعها في سلة قلب مُحب، ليرميها باذخاً في العشق للنهر:
فيفيض بالأغنيات
ويرقص النخيل
من وجع الحياة يصنع أغنيةً وجعاً تشدو بها أغانيه، بل وقصائده..
“أمة من وجع” يبحث فيها عن غابة مسحورةٍ وساحرةٍ “تكشف الجدران” عن “قُبحٍ قديمٍ”.
لكن صوت الشاعر يُرمم الكلِم ويكتبُ الحِكم ليضع وردةً يخترق بها جدار الأُحجيات وحُجب الساحرات ليحلم بوطنٍ يفتح قميصه فيه “فتطير حمامات” دلالة توَق الشاعر لنثر الطيبة والحُب في ثنايا الغُرف المُظلمة انزوت الأقمار فيها فلا ضيَ يبث الأمل والشمس تُخفي شعاعها:
أفتح قميصي
فتدخل حروب
ومقابروأغنيات سود
تنتظر أن أعزف لك
إغنية الباب الذي أغلقته الريح
الريح صهيل خيول تشتهي الحُرية وترنو عازمة إليها بصمتٍ.
البريسم يغزل الكلمات بلا لغة ليُصيغها قلائد تاجها الصمت وأحاسيسها شدو أغانِ جنوبية فيها من نشيج الألم ما يستفز طين الجنوب ليصنع أغانيه من خرس الأمهات الثكالى ساعة استذكار العويل بمس جنوني بفيض من الأغنيات يتراقص النخيل على أنغامها:
ملائكة
ورفيف أجنحة
أبني على أصابعي مُدناً
وأصابعي مُدنٌ
من علَم المُدن أن تكون ظلَي
عبدالحسيم بريسم شاعر غاوٍ والشعراء يتبعهم الغاوون:
المالكون من الملائكة أجنحتهم
الماضون بلا زاد إلى حتفهم
يمرون خفافاً على الطريق
أوراقاً من تعب
وأقلاماً من شجن
يُوَرثون تاريخاً قديماً من الهمَ
...
يؤرخون أمجاد الآخرين
وينسون أمجادهم
...
العاصرون للورد عطرهم
المُشيعون للنجوم بريقهم
لم ينس رغم الهمَ والألم لحظات الحُب والهوى والعشق الحلال
يرسم البريسم لوحة عشق لزوجته بقصيدته (أحلاهن) ليُخاطبها بالقول:
ليس لي ما يكفي من الورد
لأنثره بين جناحيك
وأنت تمرين
إلى فراشات قلبي
ولكن أنا أملكُ ما يكفي
من الحُبَ
ليفيض دجلة بالأُغنيات
ويصهل الفرات باسمي
...
فلا بحر إلَا بحر حُبَي
ولا أشرعة إلَا عينيك
مفردات تسمو بك في قصائد البريسم مثل الورد والعطروالحدائق والفراشة والأحلام والقمر والرقص والموسيقى، الأطفال وأجنحة الملائكةوالجنة وأرض السوادوالنخيل ودجلة والفرات، وردة رازقي تركتها على نهر الغرافوالثوب الأنيق والطيور والشعر والقصيدة حبكتها وسرديتها وعالمها السحري الذي يقتص من ألم السنين جراحه ليرسم لوحة عشق لشاعر حالم، وما الحياة بغير حُلم سوى تصحر وجدب وانتظار خال من المعنى. إنه “نزف الشجر”.
نامي
فلست
وحيدةً
لأن
الوردة
تحت
وسادتك
عطرها أنا
البريسم يكتب القصيدة كما النخل يمدَ جذوره و “سباحه” بعد حفر الصخر لتنسل لعذب الماء، ليتساقط عليك ثمارها”رطباً جنيا”. 
الشاعر يموسق قصيدته أغنيته بعد أن “يتسلق شجرة الحُزن”  ليُزيل الألمَ عن جدَب حياتنا نحن الذين ننشد قصائده مغزولة بألوان الورد:
وردتي تُراقب
متى أضع خطوتي
فوق ـ عبوة ناسفة ـ
حتى تُعلن
أني آخر شاعر
سقاها شعرا
فأورقت
أيهما
فراشتي
وردتي
لك أيها القارئ العزيز أن تُنصت لصوت الشاعر هذا كي يُسيح بك في عوالم الجمال ليُخلصك من عوالم الواقع المليء بالألم.
ليس بدعة أن نحلم بعوالم وردية، فبعض من جماليات عيشنا الواقعي كانت أحلاماً وردية حقاً قبل أن يكتب الشاعر قصائده حالماً، وما أن تحققت تصورنا أنها خارج عوالم المثال المُتمنى لنجعلها أسيرة زمن قهر طويل.
لحظات الجمال يختزلها الحُزن دوماً لتكون ومضة فرح في عالم الشجن.
وأخيراً جماليات الشعر وقصيدة البريسم “رداء الله”:
لقد ألبسوك
رداء
الله
وظلَوا
عُراة
فصار
الله 
عليك 
رداء  
وأختم بنزوع الشاعر للحُرية ودفاعه عنها بوصفها مكمن الوجود الحقيقي للفرد، فلك أن تقول قولك، ولكن ليس من حقك أن تحرم الآخرين من قول ما يعتقدون به:
أنا لا أشربُ الخمر
ولا يشربني
ولكن
أنا لا أمنع الآخر
أن يُحلَق بأجنحته
حلَق صديقي البريسم بأجنجة الشعراء الغاوين، وأنت بهيٌ تعشقُ غيرك من البشر الذين يُحلَقون في سماء اللغة شعراء كانوا أم أصحاب رأي.
شغفتُ بهذا القرط وما صغته من حُليَ القول لحظة الوسن واضطراب نومك  فبنُعاسك لم تفتر حواسك وتلك شفافية في الاحساس صغتها شعراً.