إمضاءات

ثقافة 2019/03/24
...

 
رعـد فاضل
* من الصبيانيّة الثقافية بمكان أن نتّهم شاعراً أو كاتباً عربياً مختلفاً ما بأن لا عهد له مع كلّ تراث، إذ من يجرؤ نقديّاً على اتّهامه بأنّه ليس جزءاً حيويّاً من مستقبل سيكون هو نفسُه له ذاك التراث؟. التّراث لا يمكن أن يكون نوعاً من العُهْدة أو الوديعة التي لا يمكن المساس بها تجنّباً لخيانةِ أمانةٍ ما. التراث ليس فِكراً مُقفطناً ومعمّماً بسبحة ولحية، ذلك هو الماضي. وليكون أيّ تراث نوعيّاً لا بدَّ أن يكون حاضراً وفعّالاً وقابلاً للاكتشاف والصّيرورة 
على الدوام.
 
* الشّعر لا يمكن أن يكون ميّالاً إلّا لفذوذيّته أولاً؛ لأنها مصدر علاقته الأعمق جمالياً ومعرفياً بالإنسان والعالم والأشياء. وهذا ما يفسّر لنا، على ما يبدو، عبارة رامبو الشهيرة ((أصبحتُ أوبرا أسطوريّة)).
 
* ماذا لو كان في إِمكان كلّ عمق أن يُطوى كما منديل، أي يصير سطحاً، أي يُختَزل. وماذا لو كان في إِمكاننا قلْبهُ، أي أن نجعل بطانتَهُ سطحاً وسطحَه بــِطانة؟. بذلك نكون قد وفّرنا لكلّ سطحٍ فرصةَ أن يعيش العمقَ، ومنحنا العمق فرصة التّعرّف إلى السّطوح. من هنا في ظنّي نتطلّب نقداً غوّاصاً، لا عوّاماً في أفضل أحواله لا يُعنى إلّا بقلْب البِطانة لا بتقليب النّظر بين
 طيّاتها.
 
* كلّ ذكرى لا يمكن أن تكون (زمانيّة) لولا أنّها ما زالت تحضر وبقوّة من وقت لآخر بيننا. أي ما زلنا نعيش حضورها هذا كلما عنَّتْ لنا، أو مرّت بنا. فكأنّها بهذا المعنى نوع من امتداد ثيمة ماضيةٍ ما عبر جسد الزّمن (ماضيةٍ إلى أمامٍ- إلينا) لتذكّرنا بعنفوان حضورها. كلّ ذكرى ما كانت لتكون من هذا النوع لولا أنّ لها قدرةً على لفت انتباه الوعي، لولا أنها تظلّ مُستـقبَلةً على الدّوام، وستفقد عنفوانها هذا متى ما أصاب الارتكاس والنّكوصُ قدرتها هذه على التّواصل معنا، أي متى ما نزعت إلى: زمنها، لا إلى: زمانيّتنا. ذلك ما تفعله كلُّ كتابة أدبيّةٍ خلّاقة سابقة عاشت زمنَها، وتعيش زمنَنا بوصفها ذكرى لا تزال في صيرورة 
متواصلة.
 
* الاختلاف خَرْق والتفافٌ على قانون اللغة. وما كانت كلّ لغة شعرية لتكون كذلك لولا أنّها كانت خَرقاً لذاكرة لغة شعرية سابقةٍ أو تجاوزاً لها، بسببٍ من أنّ كلّ شعريّ مختلف ما هو إلّا أسلوب ثقافة آخر، وطريقةُ تعبير
 أخرى.
ما هو إلّا زوايا نظرٍ أخرى إلى اللغة والعالم والثقافة والأشياء. الشاعر لا يمكن أن يكون مختلِفاً إن لم يكن مفكِّراً ملتَبـِساً، وكلّما اختلف الشاعر تيقّن أنّه يغترب كونه يمارس حريته بوصفها تجدّداً ونزوعاً إلى الحياة، بوصفها اختلافاً متواصلاً مع ما يجيء، وانفصالاً عن كلّ قارّ أو مؤتلف. أشاطر أتِيل عدنان الرّؤية في اصرارها على أنّ الشّاعر المختلف ((لا يحتاج النّزول إلى الجحيم، إنّه من مواليد الجّحيم، يبقى فيها، وبهدوء يظلّ يتأمّل
ُ اللهب)). 
الاختلاف لا بدّ أن يعني أنّ خلف كلّ ظهور: غياباً، وخلف كلّ غياب: ظهوراً. الاختلاف سلسلة لا  تنتهي إذ كلّما تكشّف خفاء لا يتكشّف إلّا عن خَفاء آخر، هكذا كما الأسئلة الخلّاقة التي تظلّ تنطوي أجوبتُها على أسئلة أكبر وأعمق بين طيّاتها. وكما فهمنا من الميثولوجيا اليونانيّة بما معناه؛ أننا لن نكون مختلفين ومجدّدين ما لم نتعدّ ذلك الامتحان العسير الذي يتجاوز حدود إِجاباتنا إلى سواها، أي أن نديم دائماً كلَّ 
تصيُّرٍ والتِباس.
 
*  تحدّثنا عن أبي نوّاس بوصفه بودليرَ العرب، وعن أبي تمّام من حيث هو مالارميه العرب، وفرحنا أنْ غدا عبد القاهر الجرجانيّ الأنموذج الأصليّ لكلّ من دي سوسير، وآي.إيه. ريتشاردز، وياكوبسون، ورولان بارت، على التّوالي. لم يسق جابر عصفور هذا التّوصيف إلّا من منطلق أنّ ذلك كلّه ليس سوى وهمٍ، من جهة أن لا حداثة مركزيّة، أي أنّ هنالك حداثات متعدّدة محكومة بلحظاتها التاريخيّة. ولكن أيصحّ مثل هذا التّوصيف (الوهم) إذا ما ذكّرنا بأنّ الحداثيّ (القديمَ) هو من نبّهَ الحداثيّ (الجديدَ) بالوعي بالحداثة، من جهة كونها فكرة أو حتى لَمْعاً لفكرةٍ مادام الاصرار قائماً على الرّبط ما بين حركة الحداثة بوصفها ((وعياً مضادّاً)) وبين حركة
 التّاريخ؟. 
وعلى هذا الأساس هل يمكن قَلْب المعادلة (اعادتها إلى حقيقتها التاريخيّة) فنتكلّم على بودلير ومالارميه بوصفهما أبا نـُواس، وأبا تمّام الفرنسيين، وهكذا بالنسبة
 للجرجانيّ؟.