هذه ليستْ مما أتباهى به او افخر. هي مما يثير الحيرة ويجعلني واقفاً منتصف الطريق فلا أنا عابر ولا أنا عائد استريح. وقبل أن اكتب ترددت، أن كنت أكتب مفيداً أم أشيع تردداً. بعد صمت دقائق والقلم ينتظر أن أحركه، قلت أكتب ولينلْ كلٌّ من الكتابة ما يهمّه أو ما يريحه. ثمّ هي تجربة وليستْ أمراً ولا نهياً ولا دعوة لأمر قد يورث ندماً.
حسناً اكتب.
عدوى من اصدقاء، او محاولة عابثة او لهو بلا معنى، اشتريت آلة صيد. آلة بسيطة، شصاً (متطوراً قليلاً) وخيطه المتين الذي لا يُقطع والقادر على سحب صيد!
وهكذا كنا اربعة توزعنا اماكن متباعدة من ضفة النهر وكلٌّ يدعي مهارةً وكلٌّ يأمّل بعودة غانمة من النهر الذي كان صامتاً ولا ريح.
تعلّمنا، لا أدري كيف تعلّمنا هذه، ان نلتزم الصمت ونتظر. فخمدنا على الضفة والشص في الماء واطراف الحبال او الخيوط بايدينا ننتظر اهتزازا، ننتظر حركة، ننتظر لحظة اصطياد!
لكن الصمت طال اكثر مما يحتمل صبرنا. صرنا نلتفت واحدنا للآخر قصد الكلام فنكتفي بالاشارة ونعاود الانتظار. انتبهت الى احدنا يسحب خيطه بسرعة وبانفعال ومن غير كلام، حتى انتهى الى ..... لا شيء!
أنا الأقل خبرة الذي انتظر الصدفة، لا المهارة ولا المعرفة، أبديت جدية وانفعالا وكأنْ حدثاً سيقع. لكن، لاشيء!
الثاني منا نظر لي بما هو قريب من الغضب، أو بما يعني اتهاماً وكأنْ كنت شؤم ذاك النهار. لكنه سحب خيطه بسرعة من سينقذ العالم، وإذا بسمكة صغيرة من النوع “الذي لا يؤكل”، فشتم، لا ادري من، ورماها ونظر لي بغضب وكأنّي طارد للسمك من انهار العالم.
تحملت كلّ إدانات الخاسرين، وربما القحط الذي اصاب الناس في العصور. وأحسستُ بنفسي صغرتُ وأنّي لستُ في مكان حضوري مريح فيه، رحت افكر فيما سمعت من اقاصيص صيد الاعاجيب، وعن الحوريات وعن السمكة التي حملت في جوفها لؤلؤة وتلك التي اخذت الصياد الى مملكتها في قاع النهر، الى آخر تلك البدائل او المعوّضات أو السخريات من الفشل والخسارة. ولعل أشنع ما فكرتُ فيه هو ما آل له شيخ همنغوي، وكيف عاد بهيكل عظمي آخر تلك الحياة وبذلك الجسد الذي أوهنه الصيد، ولكني لن أعود بهيكل عظمي ولكن قد تسحبني سمكة متوحشة لأكون طعام جنسها، لحماً آدمياً لغذاء السمك الجائع في النهر.
هنا اهتزَّ الحبل او الخيط، ولعلّه اهتزاز يدي ارتجافا مما فكرتُ فيه، لكنه اهتزَّ ثانيةً وبدأت اسحب وانتهيت مثل مخبول غير مصدق برؤية السمكة وهي تحاول الخلاص من الحديد الذي نشب في فمها، ورأيت دماً ! و.... فلتت السمكة ومضت فرِحة وبعض دم الحرية عليها وعلى عقدة الخيط التي ما تزال أمام عينيه حتى اليوم. ما تزال رفرفتها وما تزال فرحة الخلاص والعودة الى الوطن وأُلفة الاسماك ودنياها المائية الدافئة والبعيدة عنا ..
حتى الآن قلت كثيرا ولم أقل ما أردت. الآن أقول: بقيَ ان تفكروا معي وتشاركونني بأن إيماننا بالانسانية ومتطلبات وجود الاحياء فيها، يقتضي العيش بحسب ما يقتضيه هذا الإيمان. وافتراض وجود الحب الحقيقي للحياة يستوجب تحويله الى ممارسة، الى فعل ملموس النتائج. وهذا يعتمد على ما نفعله. السؤال الآن هل فعلا نحن نفعل ذلك؟ نحب الحياة؟ نحن نرى قتل الاحياء، نرى دماءها وموتها الشنيع ونحن مكتوفو الأيدي ننظر ربما بارتياح .. وقد يهبط المستوى أكثر فنجد متعةً فيما يشفي غليلنا منها، من قتلها، ربما نحتفي بالدم ونطبع أكفنا به منتصرين او منتظرين فرحاً.
اللغة المنمقة تغطي أحيانا على زيفنا العاطفي واصطناع الحرص على الحياة واحيائها. أقول لكم، ولا تفزعوا، نحن نجهل الجمال، جمال الحياة، والقبح والوحشية سيدان!
المشكلة أن انتماءنا الغابي صنع بيننا وبين الحياة فجوةً، فابتعدنا عنها عن حميميتها المشتركة ونحن نعيش فيها وبين أحيائها، بل ونحن نفيد منهم ومنها. فنحن بين أن نريد ان نكون احياء ونعمل المستحيل من اجل ان نحيا، نحن ننسى الحياة وارواح الاحياء. فلا نكتفي بتجاهلها وبالاساءة اليها وتدميرها، بشعور من الاسف في الاقل او بالالم من الضرورة واللاحل، نحن نفتقد الحكمة أكثر فلا يتسنى لنا التعامل معها تعاملاً بلا شراسة، بما يبقي انسانيتنا. أعني أن نجعل سمونا امتيازاً رحوما طيبا وعاقلا! ردود أفعالنا منحرفة أحيانا، فنضحك فرحاً اذا استهدفنا حيوانا، كلباً مثلاً، بحجر وكسرنا ساقه فراح يعوي فاضحاً بوجعه رداءتنا. ونحن نتراكض فرحاً ونبتهج بإعدام إنسان من غير ان يصحب ذلك أسف على أنه ارتكب ما أدى به لهذا المصير. سؤال: كم هي مشاهد الألم في العالم؟.