أشواق النعيمي
تتعالق مجموعة “ كتاب الحياة “ القصصية للقاص عبد الأمير المجر ومفهوم الاغتراب خطابا موازيا يتخذ في القصص مستويات وأبعادا متغايرة. في قصة “العراة” يشكل الاغتراب الاجتماعي وسيلة لتعويم وتعرية الفضاء المكاني بمؤثثاته وشخصياته ورموزه. ينفي السارد انتماءه للمدينة التي تعرضت للسرقة من قبل لصوص دخلوا خلسة تحت ستار الظلام فأصبحت فجأة عارية من كل شيء حتى ملابس سكانها لتغترب عن قيمها ومبادئها التي اخذ الناس يعتادون شيئا فشيئا على فقدانها. قبل أن يكون اغترابا عن الجسد، العري اغتراب عن الذات الاجتماعية، فالملابس تشي بثقافة وطبيعة وقيم المجتمع. يتحدث السارد الذي يصف نفسه اغترابا بعابر سبيل وشاهد على واقعة السرقة من خلال تقنية الكاميرا التي أظهرت عري الوجوه من أقنعتها المزيفة وكشفت عورات المجتمع المحجوز ذعرا وخجلا والذي أخذ يحتشد تدريجيا متخليا عن تحفظه إزاء عريه متحررا من خوفه ليواجه بشجاعة اغترابه في محاولة لاسترداد ذاته المسروقة. مفهوم الاغتراب تجاوز تعويم هوية وملامح البطل، إلى ملامح اللصوص، فلا أحد يمكنه تحديد ملامح وجوههم الغريبة التي لا تشبه أحدا، وتلك سمة ميزت معظم قصص المجموعة من خلال الطمس المتعمد لملامح الشخصيات وهوياتهم المكانية. وتعويم المكان الذي تسربوا منه بتشتيته إلى أمكنة متفرقة قبل أن يذوبوا بين سكان المدينة ويكتسبوا ملامحهم.
يتحول الاغتراب في قصة “دعوة لحفل المجانين” إلى اغتراب واقعي حين وقف السارد في المساحة التي تفصل بين ملامح الماضي الجميل وتشوهات الحاضر مستهجنا ظواهر الواقع الآني مستغربا فوضاه وسمات شخوصه المتلونة حد الجنون. يرفض السارد انتماءه للواقع الآني مغتربا عن المكان الذي يعتقد انه مسرح لحفل مجانين دُعي إليه باعتباره كاتبا سياسيا مرموقا. ضم الحفل إضافة لغريبي الأطوار ممثلي أحزاب ذات مسميات غريبة ورؤساء تحرير من العقلاء الذين تعاملوا مع الأمر على أنه سلوك طبيعي. انتهى الحفل بعشرات المقالات السياسية والاجتماعية والثقافية التي غطت أرضية المكان والكثير من الأسئلة التي انتابت السارد لحظة اكتشافه أنه كان وحيدا في القاعة الفارغة.
لعل أبرز سمات القصص ابتعادها عن المباشرة في الطرح الموضوعي واتخاذها الترميز والتشفير والإشارات الدلالية وسيلة لمعالجة بعض قضايا الواقع. في قصة “مسبحة أبي” والمسبحة هنا رمز للعبادة التي تعرضت بدورها إلى اغتراب ذاتي وتحولت من خرز تتوهج بيد من يلمسها وتنز عطرا زكيا إلى دبابيس متكورة توخز من يلمسها وتحرق أصابعه بالقروح المؤلمة. لم يطل انتظار حبات المسبحة طويلا قبل أن تنفرط من يد صاحبها وتتناثر على الأرض لتفترسها كائنات غريبة جاءت مع إعصار مغبر وأخذت تنتفخ وتتغول حاملة الكثير من المسابح المتلونة في إشارة إلى تحول الدين إلى أداة للهيمنة والاستلاب الروحي والفكري. تستبق الحدث إشارات ونبوءات طاردت صاحب المسبحة على هيئة كوابيس تنذر بسرقتها أو احتراقها أو انفراطها، قابلها باغتراب ذاتي معبرا عن حالة العجز التام والانزواء عن الواقع نحو النحيب والبكاء.
تجسد قصة “الإرث” الاغتراب المجتمعي من زوايا متعددة. والإرث العائم في القصة مرادف لمعنى الوطن، أفنى الوارث عمره في محاولات مستميتة للبحث عن إرث آبائه وأجداده رغم صعوبة كسب القضية، ظل يواصل سعيه بلا كلل أو ملل ليكتشف أنّه لم يكن وحده من يطارد القضية، لقد تشظى الوارث إلى ورثة يحملون الشكل والمسعى في البحث عن الإرث ذاته، ويختلفون في لغاتهم، لتنتقل بؤرة الحدث إلى مستوى اغتراب الشخصية عن ذاتها بعد صدمة اللقاء بشخصية مشابهة أنكرت وجوده كذات شبيه شكلا ومضمونا. بدأ الورثة يتكاثرون ويتصارعون كل يدعي أحقيته في إشارة إلى اختلال منظومة المجتمع العراقي بعد 2003.
تتغير زاوية الرؤية في قصة “عودة الإنسان” لتتموضع عكسيا خارج حدود المجرات. يصور المجر في قصته التي تنتمي إلى نمط الخيال العلمي مشاهد تخيلية تأخذ القارئ إلى مستقبل ينتهي فيه تاريخ البشرية على الأرض التي غرقت بظلام الموت والخراب، نهاية كتبها جبروت الإنسان في سعيه الدائم لتسيّد العالم.
يتجلى الاغتراب الإنساني في تخلي القاص عن إنسانية أبطاله واستبدالها بكائنات كونية تشبه البشر كثيرا، أما البشر فهم كائنات حية ذكية منقرضة منذ مئات الآف السنين الضوئية، كان وجودها موضع شك حتى لحظة ظهورها المفاجئ على شاشات الرصد في كوكب ميسو. في العنوان استباق للحدث الختامي بعودة الإنسان للأرض التي عادت بكرا كما كانت قبل وجوده واغترابه عن سماته الإنسانية.