انتاج المعنى في العرض المسرحي

ثقافة 2019/03/26
...

أحمد شرجي
 
 
إن التصور الألسني البنيوي لعلاقات الوحدات له نظيره في المسرح. فالعرض المسرحي مثل اللغة، له بنية علائقية ذات نسق خاص. ومن ثمَّ يمكننا أن نعتبر أصغر وحدة أو موضوع مادي، إشارة تندرج في إطار شبكة علائقية مع إشارات أخرى. بمعنى آخر: إن العناصر المسرحية تترابط فيما بينها زمنياً وفضائياً، لتحيل على معنى محدد عند المتفرج. ولا بدّ من علاقة تضاد تجمع بين العنصر المسرحي مع ما يسبقه وما يليه حتى يكتسب معناه. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تحمل القبعة مدلولات متعددة، فهي قبعة المهرج، والسيد، والشحاذ،.... وإذا رفعها المهرج بعد فاصل بهلواني للإضحاك لكي يستجدي بها، تتحول إلى علامة للتسول والاستجداء، وإذا كانت على رأس المهرج نفسه ورفعها احتراما لسيدة ما، تصبح علامة دالة على الاحترام.
 وفي الثقافة العربية، يدل العقال العربي على الوقار والهيبة، وهو أيضا ثقافة اجتماعية، فوضعه على الرقبة إشارة إلى حدث جلل، ثأر مثلا، أو إشارة تتعلق بالشرف العائلي. وبذلك تكون القبعة والعقال مثل الوحدة اللغوية، يتوقف معناها على علاقتها مع العناصر الأخرى. وفي الحالتين تنزاح القبعة عن دلالتها الاجتماعية والثقافية المتعارف عليها. فالعناصر في “المسرح، حتى لو كانت بالأصل نفعية، أو أيقونية لها صفات مشتركة مع الواقع، فعند دخولها في علاقة جديدة مع عناصر مختلفة عنها أو متضادة معها، تفقد معناها التقليدي المتداول، وتكتسب أبعاد الكناية والمجاز التي يتميز بها النص الفني”( سيمياء براغ للمسرح، ص: 9). 
وهذا يعني أن العلامة لا تعمل بدينامية بعيداً عن القوانين الاجتماعية والثقافية التي أنتجتها، لأن “ما من علامة توجد منعزلة بذاتها، بل إن العلامات موجودة دائما في سياق وفي علاقات أخرى”( ليشته، جون، خمسون مفكراً اساسياً معاصراً ، ص:282). وبما أن المسرح ظاهرة ثقافية وتواصلية، فإنه يخضع لقوانين  المخرج الذي يركب شفراته وعلاماته وفق قراءته الثقافية الخاصة للنص، ويعد المجتمع مصدر تلك القراءة. ومن هنا نتساءل: هل حقا لا تنشغل سيميولوجيا العرض المسرحي بتحديد المعنى، وإنما بأسلوب إنتاج المعنى؟. نرى أن مهمة المسرح برمتها تنشغل بتحديد المعنى وليس بأسلوب إنتاجه، تحديد هويته، لأن العرض المسرحي يحدد مسبقاً معاني أنساقه وشفراته، ويعنى المتفرج بالعملية الإنتاجية للمعنى، لأنه يسعى لتأويل علامات العرض المسرحي ويعمل على إيجاد مقاربات مرجعية لها بناءً على قدرته التأويلية. فالتاج تحديد للمعنى وليس إنتاجه، وكذلك الأزياء، وفلسفة اللون الأخضر وقدسيته، ودموية اللون الأحمر. 
وينطبق الأمر نفسه على العلامات السمعية، مثل المشي العسكري، وطبول الحرب، وأجراس الكنائس والآذان عند الصلاة، وتحدد علامات الديكور المعنى الوظيفي، إذ تحدد معانيها مسبقاً في (النص الجنين)، ثم (نص العرض الجنين). فالإخراج ليس تطبيقاً لما هو موجود داخل النص الأدبي، بل عملية انزياح قصدي لهوية النص الدرامي ، وتشكيل هوية المخرج  ونصه، النص الجنين الذي ركبه وفق مرجعيته الاجتماعية والثقافية، والإخراج وفق ذلك “هو كلام النص ­النص الجنين­ في عرض معين، والطريقة التي تستخرج بها افتراضاته وعناصره غير اللفظية، ونطقه اللذان سوف يضفيان على معناه المحدد “(  بافيس، لغات خشبة المسرح: ص:20). ولتحقيق ذلك يخضع النص لعملية الهدم والبناء والتركيب والاستبدال. ويعد هذا الاستبدال، تحديداً للمعنى وفق ثقافة نص العرض الجنين، الذي حددت أنساقه البصرية واللغوية وقنواتها الاشتغالية لتتحرك داخلها العلامات بما يشبه حركة المجرات الفضائية، بهدف تحديد المعنى وليس إنتاجه. وتتم عملية التحديد وفق عدة مسارات اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وثقافية. ولا بدّ من  رصيد معرفي قبلي من أجل فهم الأماكن التي تعمل بداخلها العلامات، وإدراك العلاقة التي تربط بينها وبين القوانين التي تتحكم بها، لأن المعنى في المسرح، هو الاستخدام المتولد من العرض. بمعنى أوضح: أن عملية التحديد المسبق تنشئ علاقة ترابطية في عملية الاستخدام لمختلف الدلالات.
وحسب باتريس بافيس، يقود ذلك الاستخدام إلى تداخل نوعين من الآليات: 
• آليات دلالية: تولد منظومات مغلقة على نفسها (النص ­ الخيال، الشفرات الجمالية ومنظومات العرض المستقلة). 
• اشتقاقات سيمانطيقية: تحلل هذه المنظومات عن طريق ربطها برغبة تفسيرية، وبفعل كل قراءة( بافيس، لغات خشبة المسرح:ص:102-103).
وفقاً لبافيس، فإن المعنى يعمل وفق ثنائية الانفتاح والانغلاق. فالانفتاح يتمثل في قابلية العلامات على تعدد القراءات، ويرتبط تفسيرها بعامل خارجي (مؤول) بعيداً عن صناع العرض المسرحي. أما عملية الانغلاق باعتبارها آلية دلالية، فتتم وفق عملية اشتغال عناصر العرض المسرحي.
 وتأسيسا على ذلك، يكون العرض المسرحي محدد المعنى مسبقا، منذ المرحلة الأولى (الانغلاق)، التي تتم فيها عملية تفكيك شفرات نص المؤلف وتركيب شفرات المخرج، وتعد هذه العملية اتفاقية بين المخرج وصناع العرض. أما المرحلة الثانية ­حسب آن اوبرسفيلد­ فهي مرحلة النفي التي يتم فيها نفي المعنى من قبل الطرف المعني بالعملية الإرسالية وهو المتفرج، لأنه يعمل على إيجاد معناه الخاص للعلامات المغلقة. فمرحلة الانفتاح ترتبط بالعامل الخارجي، وهو عاملٌ متعدد القراءات والتفسيرات. وهذا يقودنا إلى طرح سؤال مهم: أي سيميولوجيا للعرض المسرحي؟ طالما أن علاماتها لا تقرأ بذات القصدية الاشتغالية التركيبية التي جهد صناع العرض المسرحي لإيصالها. ويكون الحديث عندها عن هوية العرض الاجتماعية والثقافية وهوية الجمهور المستهدف.