قحطان جاسم جوا
صمت كبير لف قاعة نازك الملائكة في المركز الثقافي البغدادي صبيحة يوم الجمعة الماضي، في الذكرى الاولى لرحيل الكاتب والمؤرخ والشاعر قاسم محمد عباس.. وجاء الاستذكار متزامنا مع يوم المخطوط العربي، حيث شاركت فيه نخبة كبيرة من الادباء والمثقفين من اصدقاء الراحل، منهم عبدالزهرة زكي وحسين محمد عجيل ونصير غدير واحمد سعداوي وحسن عبد راضي وعلاء المفرجي وعبدالكريم العبيدي وزعيم النصار وغيرهم
منهم من تحدث عن شمائل الفقيد وسماته الادبية، ومنهم من قرأ قصيدة بهذه المناسبة. بدا الاستذكار بدقيقة صمت وقراءة سورة الفاتحة ثم اعلن الاعلامي عماد جاسم عريف الحفل بدء الجلسة قائلاً: كان الراحل اديبا مهما اسهم عبر نشاطه الثر والمتعدد في رفد المشهد الثقافي العراقي بالكثير من الدراسات والمنجزات التأليفية في ميادين الشعر وتحقيق الكتب والمسرحيات ونقودها.
بصمة ابداعية
وتحدث الاديب والباحث حسين محمد عجيل، الذي ادار الجلسة، قائلاً: ان عزاءنا في هذا الرحيل المفجع يبقى في رصانة الادب والاثر اللذين تركهما قاسم محمد عباس، عبر المنجز النوعي والثري في اكثر من حقل ابداعي ومعرفي. وبصمة الاثر الكبير الذي تركه في نفوس صفوة من اصدقائه وزملائه ومريديه وقرائه ومعارفه، وهي جذوة ستظل تلتهب في افئدتهم. واضاف، سيتفاعل هذان الاثران والبصمتان ليشكلا معا رصيدا هائلا في حساب مستقبل البلاد، التي لن تنسى اجيالها الجديدة جهود الكبار من ادبائها، وسيظل قاسم محمد من صفوتهم واعلامهم المهمة.
كان ملاكا مر بنا
وقدم الشاعر عبد الزهرة زكي شهادة عن الصداقة المتواصلة في الحياة والفكر والادب في حياة الراحل، وقرأ قصيدة شعرية بعنوان “ان كان ملاكا مر بنا فلم نره”. جاء فيها:
حينما مات... قلنا كان ملاكا، مر فلم نره.. وفيما هو نعش على اكتاف مشيعيه... كانت اشجار شتاء مازالت يابسة... وكانت تريد ان تراه لتودعه... فكان، من اجلها ومن اجله، ربيع لنهار واحد..... وكان ورق اخضر على اغصانها.... وكانت اغصانها تزهر وردا ابيض... فكان ورق الورد دثارا للنعش... كانت غيمة في السماء قد اشتهت ان تقبله... فكان مطر غزير... وكان المطر يهمي، عذبا، عليه... كانت انهار قد تمنت ان تعانقه.... فكانت منها امواج.. وكانت الامواج، حانية، تهفو اليه.... وكانت طيور كثيرة تريد ان تترفق به... فكان ريش كثير يطير منها... وكان الريش ناعما يحط وسادة له... كان المشيعون في ذلك النهار يمضون فيه الى القبر.. فكانت شمس تتوق اليه... وكان قمر... وكانت نجوم ونيازك تهبط... فكانت تحف مواليه... في ذلك النهار... كان الهواء صامتا.. وكان ينتحب بسكون حينما كان يمضي معهم.. مع كثيرين... كانوا حزانى رافعين النعش على الاكتاف... وكانوا يقولون.. كان ملاكا مر بنا فلم نره. كانت الارض جذلى... وكان ترابها اخضر.. في ذلك اليوم.. الذي كان سيدفن فيه.. وتكون هي الفردوس.
جوال الفكر
في حين تحدث الناقد السينمائي علاء المفرجي بأسى شديد على فراق الراحل اذ جمعتهما الكثير من الذكريات والهموم حين كانا يعملان سوية بجريدة المدى. قائلاً:- هو الصوفي، وجوال الفكر، وجوهر الذكر وجميل المنازعة، وقريب المراجعة. لايطلب من الحق الا الحق، ولايتمذهب الا بالصدق. اوسع الناس صدرا، واجزل الناس نفعا، ضحكته تبسم واستفهامه تعلم. مذكر للغافل، ومعلم للجاهل، لايؤذي من يؤذيه، ولايخوض في مالايعنيه، كثير العطاء، قليل الاذى، ورع من المحرمات، متوقف عن الشبهات، اب لليتيم، بشره في وجهه، حزنه في قلبه، مشغول بفكره، مسرور بفقره، لايكشف سرا ولا يهتك سترا.. هكذا هي سمات الصوفي العارف قاسم محمد عباس كماعرفته، بل ويعرفه الجميع. ذلك الاديب الذي وضع اكثر من 15 مؤلفا في التصوف، وسير الصوفيين، وكتب الرواية. ظل وفيا للانسان الحقيقي حتى وهو ينطفئ ويتقهقر،عائدا الى سيرته الاولى متعبّدا في محراب المعرفة. دخل الحرب كما ابناء جيله وقد الهمته الحرب روايته (المحرقة).
واضاف، دخل الى الصحافة رغم انه لم يمارسها من قبل. وكانت بالنسبة له ليس اكثر من فسحة من البحث والكتابة اثمرت اغلب مؤلفاته. كما كانت مناسبة للتعرف على الكثير من الاصدقاء المشتغلين بالمعرفة بكل تفاصيلها.. ولم يلجأ اليها مضطرا، بلا برنامج، انه مكان لقاء اصدقائه. وقد جمعتني به صحبة طويلة نعمل بجد ونشاكس كثيرا ولم يخطر في بالي يوما انه سيغادرنا بسرعة. وحين نشرت صورا معه اثناء مرضه على الفيسبوك طلب مني
رفع الصور.
وزاد المفرجي وهو يخاطبه بالقول:- اخترتك ياقاسم صديقا في زمن صعب تكون فيه مقاييس الصداقة –رهناً- بالعطاء. وانت تعرف تماما ياصديقي ان لاشيء في هذه الحياة يمكن ان يدوم الى الابد مثلما تدوم المواقف الزائفة... كما يقول اندريه جيد، وعلينا نحن معشر المثقفين ان نحاول ايجاد حل لها، ولكن في الحياة لايحل شيء من تلقاء نفسه، انما يستمر كل شيء ونبقى دائما في شك وسوف نبقى حتى النهاية دون ان ندري علام نعتمد.. وتستمرالحياة في سيرها وكأن شيئا لم يكن. فما زلنا اسيري التقاليد في حدود حجرية من الازمنة الماضية تحدق بالحاضر، فمن اراد الدخول الى المستقبل كان عليه ان يتخطاها، ذلك ان الطبيعة لاتريد توقفا في المعرفة، سوى موت مفاجئ يضرب الواحد منا.. يفرح ويكتئب، يكره ويحب، يقبض على الدنيا فيزهو بها واذا بطائر الموت ينقض... قاسم مالنا مفزوعون هكذا؟ ألانَ الناس نيام، فاذا ماتوا انتبهوا، ام لان الذي غاب انضج ثمارنا.. نعم قاسم فقد كنت انضج ثمارنا يا صديقي.