لا خيار غير القراءة المنتجة منهجاً لاكتشاف المساحات المخبوءة من الجمال والتشبّث بالأمل بانتظار الغد المترع بالسعادات والإمساك بجمرة المعرفة، وتحت نظري الان الإصدار التاسع عشر للباحث والمترجم صلاح السعيد الذي جاء بعنوان ((الباب المنزلقة تقلق الطيور ــ وقصائد من الشعر العالمي المعاصر-)) فقد أيقظ في مخيلتي أسئلة مكرورة عن أمانة الترجمة وخيانة المترجم, فمازال الجدل دائراً بين من يرى ان ترجمة النصوص الأدبية (الرواية, القصة, الدراسات, الشعر) من اللغات الأجنبية الى العربية هو خيانة ما بعدها خيانة واساءة بالغة للنصوص بلغاتها
الأصيلة.
في حين يرى فريق آخر أنّ ترجمة (الشعر) خاصة اذا ماتولاها مبدع باللغتين الأجنبية والعربية فإنّ الأمر سيكون مختلفاً ويحقق نجاحاً منظوراً, ولا أريد أن أستغرق في فك الاشتباك بين هذين الرأيين, فالموضوع شائك ويحتاج الى دربة ووقت وأدوات, ولست بصدد ذلك الآن, لكني سأحاول بقراءتي الانطباعيَّة هذه أن أقترب ــ كما أزعم ــ من ازاحة غبار المعركة هذه بعرض نماذج شعرية تألق في ترجمتها صلاح السعيد لما له من خبرة متراكمة وقدرة معروفة في ميدان الترجمة (الأدبية) فهو فضلا عن تدريسه الانكليزية لأربعة عقود في المدارس
الثانوية.
فقد اثرى مكتباتنا بــ تسعة عشر كتاباً مترجماً حققت حضوراً لافتاً وقبولاً طيباً, وهو في جديده ((الباب المنزلقة تقلق الطيور)) قدّم للقارئ ثلاثة وثلاثين شاعراً أجنبياً بنصوص لم نقرأها بلغتنا من قبل, وكان من بين أهم الأسماء التي اختار لها: بورخس, بروست, بيكت, ديفيد معلوف))........
في البدء أود الاشارة الى ان صلاح السعيد نجح في تقديم سيرة موجزة لمن اختار ترجمتهم في حين أغفل أكثر من عشرة أسماء من عرض سيرهم وقدّم نصوصهم مجردة من أي تعريف بهم, ويبدو ان العم “غوغل” لم يسعفه في تقديم ما هو مطلوب في هذا الصدد, كما ان الكتاب بــ 120 صفحة لم يفسد متعتنا بها سوى هفوتين طباعيتين وقعتا في ص 95 / السطر الثالث, اذ وردت سهوا مفردة (مجموعتان) والصواب (مجموعتين), وفي ص105 /السطر الأول اذ جاءت جملة (الثلاث أنهر) سهواً وصوابها (ثلاثة) , ولا بدَّ هنا من أشير ــ وفق ذائقتي ــ الى ما في الكتاب من نصوص مترجمة جميلة, وتكاد تنفي تهمة الخيانة عن المترجم أي مترجم، ولكم هذا الانموذج للشاعرة ليزا سهير مجاج, اميركية من أصل فلسطيني, تقول في ((اشجار الزيتون)) ص70:
نحن نتجول الآن في نفق الأيام تحفُّ بنا ملايين من الذكريات
الأمواج التي تلامس
الشاطئ وتهمس
ثم ننحني كي نجمعها
وتجري خلال أصابعنا
تاركين طبقة رقيقة من الملح فقط
ومثل هذا النص الجميل الذي يبرئ صاحبها المترجم من تلك التهمة المتوارثة ((الخيانة)) عشرات من النصوص التي جعلتني أعيش لحظات من السعادة الحقيقية بالاطلاع على ابداعات شعرية راقية ما كان لي ان استمتع بعذوبتها لولا مهارة صلاح السعيد وتمكنه من ادواته التي أزاحت الكثير من الأوضار التي غالباً ما تمد أصابعها صوب ابداع الآخر وقدراته بغضاً وحسداً, ومن النصوص الأخرى التي نالت اهتمامي ودهشتي نص (دعنا نلتقي في قصيدة) للجيكية برونسلافا فولكوفا (تولد 1946) ولها: شجاعة قوس قزح /عام 1993, والأوديسة الانثوية في الادب الجيكي/ عام 1997, وملاحظات السجن المهربة في آذان رغوة الفجر /1999, تقول برونسلافا في نصها الجميل هذا:
دعنا نلتقي في قصيدة / مثل كتاب مفتوح / مثل أجمة تحترق /
مثل كلمة مفقودة / حيث تطرق باب الذاكرة الآن . /
نحن نغطس تحت ثقل الخوف والحاجة / على الكواكب المهجور/
نلوك رعب الأسر / تغطينا مآزر من أوراق الصحف / مباهج
شخصية ونجاحات / نضحك عليها / عالمنا مصنوع من أسوار
هامة / ورغبات جامحة / وازدراء مثل ذاك الذي يشبهنا /
يعترضنا / لا يفهمنا / لا يصل الى عظمتنا المفترضة / ص 92
وفي الختام لا أقول إلا ما قاله الباحث والمترجم صلاح السعيد في مقدمة كتابه هذا
ما الفائدة من المقدمة
فالشعر هو الشعر
والخيانة هي الخيانة
فامنحني قليلاً من وقتك
وبعدها لكل حادث حديث