اللاّ جدوى.. أنا كثيرٌ على الحياة

ثقافة 2023/06/05
...

  فدوى العبود

هالات عينيه وبشرته الرقيقة وخطواتهِ الواهنة التي لا تتناسب وشابٌ عشريني أثارت فضولي، الذهاب والإياب الذي يبدأ بتوقيت الساعة السابعة صباحاً في انضباط لا تفوقه إلا نزهة الفيلسوف الالماني إمانويل كانط. عرفت أن نقطة النهاية هي الجسر القريب من مكان سكننا المشترك في عشوائيات دمشق، لا أحد يلتفت إليه، يبدو أنهم اعتادوا رواحه وغدوه المستمرين من بيته إلى الجسر وبالعكس. صخرته كانت واضحة للعيان، لكن أن يقضي إنسان يومه في الذهاب والإياب أو في غسيل يديه أو تنظيف بيته بهوس وسواسي، ذلك ما يمكنني تسميته صخرة سيزيف. لكن الذهاب والإياب منذ ساعات الصباح الأولى وحتى الظهيرة إضافة لنظراته الغائبة جعلاني مهووسة به.

خريف ذلك العام كان عاصفاً. فقد غزت تياراته الهوائية الباردة والمثابرة سكينة الوجود. طوّحت بكل الأشياء الضئيلة وأفقدتها مناعتها. كانت الأواني المعدنية وأغصان الأشجار وهوائيات التلفاز، وملاقط الغسيل وألواح الطاقة الشمسية تتناثر في زوايا الشارع، الذي يعبره الناس مسرعين. 

في رواية ألعاب العمر المتقدم يخبر الشيطان (دون اساياس) غريغوريو أولياس عن حصيلة مراقبته للناس «نظرت إلى أسفل، إلى مركز الفوضى بالذات، ورأيت الناس الذين يذهبون ويجيئون حاملين أشياء غير مرئية على الأكتاف: أواني، حيوانات، زهوراً، أحجاراً وأشياء كثيرة أخرى، رأيت مارداً يحمل غضن زيتون، وهزيلاً ضعيفًا يحمل حجر طاحون» 

لم يكن حمل جاري مرئيّاً لكن يمكن تخمينه، ورحت أتسلى بلعبة الاحتمالات، فهل هو ضحية حب؟ ومن هي المرأة التي تسببت بذلك السير اللامتناهي، أم أن خللاً هرمونيًّا واضطرابًا سلوكيًّا، طفولة متعثرة أم والدين عنيفين صبغا حياته بكل هذا الخلل!

 ونتيجة وجودي الذي كان في حالة عطالة آنذاك. رحت أراقب إمكانات تحويل هذا الشخص إلى حدث فني (مسرحية-أو قصة-أو مقال فلسفي)، صرت أبحث عن طرف خيط لترويض حياة هذا الشبح الذي يبدو وكأن لا أحداً يراه سواي! 

 توصلت أخيراً وعبر جارتي إلى حقيقة أنه كان جندياً، أطاحت قذيفة بزملائه وبرصانة عقله، رفض العيش مع أسرته ورفض العمل، ومنذ سنة وهو يقوم بالفعل ذاته: الذهاب والإياب حتى الإنهاك.

(أمشي حتى لا أقتلُ أو أجن)

 كانت بطلة قصة ارينديرا البريئة وجدتها القاسية لماركيز قد ركضت بشكل متواصل ودون توقف، حتى عبرت برك الملح وحقول البارود، وأنهار وسهول ثم اختفت عن مرمى النظر. ولكن بالنسبة لجاري فلم يتعدَ حدود الجسر. 

المشي والتجوال المستمر بحث عن اللانهاية التي تثير شغف الزهاد، وفي الأدب لم تكن خرجة دون كيخوت بدون جدوى، فهدفه الماثل في الفروسية وانقاذ العالم من الشر يتعارض كليًّا مع رؤية مؤلفه: وهي السخرية منها، وعبر إيمان بطله استطاع أن يطلعنا على ضرورة الشغف والإيمان من أجل تحريك القدمين، لم تنل ضحكات صاحب ألحان، ولا بائعات الهوى من متانة وهمه، لقد زادته صنوف المقاومة النفسية والجسدية الماثلة في الجروح والعلقات الساخنة، التي تعرض لها من التجار من إيمانه بما عزم عليه. وكان عليه أن يرى في طواحين الهواء مِردة حتى يزيد من اتقاده، لم يشعر ولو لثانية باللاجدوى التي يدركها قارؤه، وربما لو اجتاحه هذا الشعور كان سيبقى طريح الفراش، ولن يقدر ثيرفانتس على زحزحته من مكانه.

يواجه الإنسان اللاجدوى لحظة الاستيقاظ، أين أنا؟ وماذا أفعل؟ ولماذا أستيقظ!

  لكن وقعُ ذلك في الكتابة ألمٌ مضاعف، فلا بذار تنتظر لدفنها ولا شتلات تنتظر التعشيب ولا أشجار تحتاج للتقليم. 

ينبت سؤال الجدوى بين لحظة الاستيقاظ وإزاحة الغطاء عن الجسد، وفي هذه المسافة الزمنية توجد صحراء شاسعة على الروح عبورها بمساعدة قوى مرئيّة وغير مرئية (أهداف ومخططات، آمال وأمنيات ورغبات ولقاءات)، لكن ماذا إن فقدت الخطوات أثر القافلة وضلّت الذات!

  رحت أختبر حالتي الجديدة في فضاء واقعيّ، ولعبت دور القدر، عابثت نملة صغيرة ورحت أراقب جرها لكسرة الخبز التي تفوقها حجمًا. وسألت نفسي من أين يأتي هذا الشعور؟

يحكم هايدجر أن كل حب وثرثرة وكل أشكال الحياة سقوط في اللاجدوى، وهروب من النظر للموت، حياتنا بأكملها ذهاب وإياب بين الذكرى والمستقبل بين القرار والفعل، وفي المسافة بين كل ذلك توجد هاوية تدعى اللاجدوى.

(ويجدر بمن يمشي فوق جدار ألاّ ينظر لأسفل وإلاّ أختلّ توازنه)

الجدوى بعكس اللاجدوى، وبينما نستمر في الأولى في الحفر كالخلد، فإننا في الثانية ندرك هذا الفراغ بين الفعل والعالم، بين قدرتي وبين عالم أقل منها؛ إنها لحظة مبهمة تدفع كاتبًا للانتحار وآخر لكتابة عمل عظيم!

يتحدث الجميع عن جدوى، (الدراسة- جدوى وضع الخطط- الأهداف- والقرارات) ترفع الستارة عن كل ذلك لحظة إدراك الفارق بينها وبين لا معقولية العالم. 

 لكن اللاجدوى فلسفة، إنها ليست قرارا، بل شعور وهنا تأتي فداحتها، إنها أفضل الا التي يلفظها بارتلبي النساخ بطل هرمان ملفل، بقرار إرادي انتهى به إلى المصح. اللاجدوى في أعماقها قرار معكوس بعدم الفعل (فعدم القرار هو أيضا قرار).

إنها ضباب كثيف يحيط بالدوافع والغايات والشغف حتى لا يمكن تبين ملامحها. أقل شأنــــًا من اليأس لكنها أعمق منه وأشد خطراً وثراء، ترضّ الإيمان، ويسري اللامعقول في أوردتها، إن عالم اللاجدوى نبيل رغم فداحة الثمن، الذي نعيشه، ولم يكن سيزيف ليعي نكبته كان يدحرج الصخرة وحسب يرفعها رغم البدء من جديد.

إن شيئًا ما يطير من اليد، هو ذلك الخيط الرابط بالمستقبل، خيط الأمل، والأعمال العظيمة ولدت من هذه الفجوة غير المرغوبة؛ من الحرية التي يولّدها وقوة الحياة التي يتركها. 

ثمة كائنات تدعى نافورات البحر تمارس الالتهام الذاتي. وهي تفعل ذلك حين تعجز عن إصلاح نفسها. إنها تتخلى عن الأطراف المفقودة، والقلوب المندوبة، والعمود الفقري المكسور، والعضلات المصابة، تؤدي اللاجدوى إما الالتهام الذات تمهيداً لنموها أو للقضاء عليها.

في كتابه الأنا والآخر تبدأ الكتابة عند ليسكانو من (استحالة الكتابة)، ومعه يتحول الخواء إلى فعل جوهري، حيث يملأ لحظات الجدب البيضاء الجافة، ويشرِّح توترات الذات القلقة ويمزّق العدم سكون ليال من الانتظار: «ثمة صعوبة في أن أكتب. لا أعرف كيف أخرج من التكرار» 

 يصف الخواء الذي يحيط بحياته بشعريــــّات بديلة: «ها أنا أسقط في الفخ: امتداد مقفر، صمتٌ لأيام وأيام» 

 (اللا) أكثر نبالة لأنها تحرر، اللاجدوى سؤال عن معنى كل ذلك، أو بتعبير سيوران فذلك يجعلكَ أكثرَ حريةً من أن تقومَ بالفعل – أيّ أن تقتلَ نفسك. ذاك الذي يقتلُ نفسهُ فكريًا لا يعودُ يعدُ عبدًا

حلول اللاجدوى محدودة جداً لعل أشهرها الانتحار، وأقلّها شيوعًا، أفضل ألا، التي يكررها بطل ملفل.

 الدرس الأول في الإرادة تعلمته من نملة، وعلى غرار سيزيف أصرت تلك النملة، أن تصل بكسرة من الخبز الجاف إلى ثقبٍ صغيرٍ في الأرض، وعلى مشارفه لعبت معها دور القدر، نزعت الكسرة بضربة من غصن صغير ووضعتها في نقطة بعيدة عنها، عادت متتبعة الرائحة وأعادت الكرة وفي هذا الغدو والرواح زاد إعجابي بإصرارها على البدء من جديد. وكلما اقتربت من هدفها أنزع منها كسرة الخبز وأرميها بعيداً.

 وانتهيت من هذه التجرية بأني تمنيت لو كانت لي إرادة نملة!

كاتبة سورية