ميادة سفر
قالوا إنَّ أصلها لفظة آراميَّة، ووردت في اللغة الهيروغليفية، ومعناها الأرض المزهرة أو الحديقة الغناء، إنها دمشق التي تغنى بها أبناؤها قبل الشعراء، وسكنت في وجدان كل من مرّ بها قبل قاطنيها، تلك التي توجت عبر تاريخها عاصمة لكل الحضارات التي مرت من هنا، وهي عاصمة الياسمين المعرّش على جدران بيوتها، الممتد في شوارها وأزقتها، هي المدينة العصيَّة على الموت الممسكة بالحياة حتى في أحلك لياليها وظروفها، ليس لأنّها أقدم عاصمة مأهولة في العالم، ولا لأنّ التاريخ يتربّع بين أحضانها بأوابده وآثاره، بل لأنَّ ثمة سراً فيها يسحرك وتتهيب البوح به أو
كشفه.
كثيرون كتبوا عن دمشق ولها، غازلها الشعراء كحبيباتهم، وكتبها الروائيون كبطلة لقصة لا تنتهي، وحفظها المؤرخون في مجلداتهم، وعاشها الدمشقيون بكل تفاصيلها، وهي التي لم تكن يوماً حكراً عليهم، بل كانت دوماً ومنذ ولادتها التي يحار بتحديدها الباحثون، كانت مقصداً وملجأً وحتى موطناً لشعوب كثيرة، منها التي هربت من أتون الحروب، أو أولئك الباحثين عن تجارة، أو المبتغين عيشاً هانئاً رغيداً، فضلاً عن الكثيرين من أبناء المدن السورية الأخرى الذين لجأوا إليها أو أجبروا على ذلك باحثين عن عمل أو أماناً فقد في أماكن أخرى، فسحرتهم وأغوتهم ولم يعد بمقدورهم الابتعاد عنها أو تركها.
عانت دمشق من ويلات حروب كثيرة وحوادث سياسية وانقلابات وكوارث طبيعيَّة، إلا أن الحرب الأخيرة التي شنت على بلادها أرهقت كاهلها وقضت مضجعها، فلم يعد الياسمين يعرّش على الأصابع كما كان يعرّش على أصابع نزار قباني، ولم يعد الغريب الذي تحدث عنه محمود درويش قادراً أن "ينام على ظله واقفاً" لكن حمامها ما زال "يطير على سياج الحرير"، على الرغم من كل المعاناة التي حلت بها تتحايل دمشق على الوجع لتعيد ترسيم تاريخها بما يليق بامرأة تمارس إغواءها وتنثر عطرها على المارين بجوارها، تستذكر دمشق اليوم شاعرها نزار قباني الذي كتب "فرشتُ فوق ثراك الطاهر الهُدبا، فيا دمشق لماذا نبدأ العَتبا"، محاولة ألا تعاتب أولئك الذي طعنوها، ولوثوا ياسمينها الأبيض بالدم، محاولة فتح صفحة جديدة من تاريخ سيشهد لها دوماً بأنّها الأم التي تحتضن أبناءها وتغفر لهم خطاياهم.
كغيرها من المدن الكبيرة مورس عليها الكثير من التشويه، تعرّشت العشوائيات في محيطها، تقلّصت مساحاتها الخضراء في غوطتها التي كانت لها مثل سوار يُزيِّنُ معصم امرأة عاشقة، وتلوث هواؤها بفعل الآلات والسيارات، ولم تعد شوارعها ملاذاً لعشاق يتخفون عن العيون ليمارسوا وجدهم ويتبادلون همساً كلمات الحب، دمشق اليوم تتحايل على الموت لتبقى وتنهض كطائر الفينيق من تحت الرماد، تفتش عن عشاقها الذين أبقتهم الحرب فيها، تتضرع إلى أماكنها المقدسة وضرائح قديسيها أن تبقى على قيد التاريخ المدينة الأجمل والأقدم والأكثر إلفة.