ثورة العشرين.. عندما تصنع الشعوب التاريخ

آراء 2024/06/30
...

 د. صادق كاظم

كان العام 1920 عاما حاسما في تاريخ العراق فالمحتلون الانكليز كانوا مصرين على جعل العراق تابعا لحكومة الهند البريطانية يقودهم السير ويلسون المندوب السامي البريطاني، الذي كان معجبا بطريقة ادارة الحكومة البريطانية في الهند بينما كانت القوى الوطنية العراقية، التي تضم خليطا مدهشا من كل القوميات والمكونات تصر على مطلب الاستقلال وتأسيس حكومة وطنية يتراسها ملك يتم اختياره من قبل الشعب العراقي.
كان البريطانيون مصابون بجنون العظمة وهم يعتقدون أن هزيمتهم للأتراك وتقاسمهم مع الفرنسيين لدول المنطقة سيمنحهم الحق في إدارة العراق من دون الحاجة إلى أخذ رأي شعبه.
حاول البريطانيون شراء الذمم وإسكات المعارضين وقمع اية محاولة ثورية للمطالبة بالاستقلال، لكنهم فشلوا حيث اخذت الاحتجاجات بالتصاعد يوما بعد آخر، وكان لا بد من الثورة لحل الازمة بعد ان وصل الخلاف إلى نقطة اللاعودة وتمسك المحتلين بخططهم ومشاريعهم.
كان هناك في اقصى جنوب العراق في الغرب منه بالذات يقيم شيخ عشائري كان يحمل هما ثوريا وايمانا بوجوب الثورة وإعلان الاستقلال اصطدم ذات مرة بحاكم المنطقة الانكليزي، الذي امر بسجنه فلم يتقبل هذه الاهانة من جنرال بريطاني محتل لارضه فاستعان برجال من قبيلته اخرجوه من السجن، حيث قرر بعدها الزحف نحو دار الحاكمية ليعلن السيطرة عليها وبداية الربيع الثوري لاعلان الاستقلال بالتنسيق مع قيادات الثورة.
سمع الثوار الوطنيون بما قام به الشيخ شعلان ابو الجون فانتشرت الثورة كالنار في الهشيم في مختلف ربوع العراق.
صدم الانكليز بما شاهدوه من شجاعات وبطولات يقدم عليها الثوار، حين يقتحمون المواقع والمعسكرات البريطانية رغم الفارق التكنولوجي الكبير والواضح وعامل الخبرة. تراجع الجيش البريطاني واخذ ينسحب من مواقعه امام هجمات الثوار، حيث استمرت المعارك قرابة الشهر. كان من الطبيعي بسبب الخسائر البشرية الكبيرة التي لحقت بصفوف قوات العشائر التي فقدت اكثر من 15 الف رجل ان تتراجع قوة الثورة وتنكفيء، خصوصا مع نضوب الموارد وشدة القصف الجوي والبري الهائل الذي تعرضت له مناطق الثورة وغياب الدعم الدولي. لكن ذلك لم يجعل من الوضع سيئا بالنسبة إلى الثورة والثوار واجبر البريطانيون على التراجع عن خططهم في تهنيد العراق والحاقه بحكومة الهند، وقرروا أن يعيدوا التظر بطريقة حكمهم للعراق، وتمت الموافقة على اختيار ملك عربي مدعوم من قبل فئات الشعب لتاسيس نظام حكم وطني هو الأول منذ سقوط دولة الخلافة العباسية في بغداد. انتهت الامور بعدها إلى تأسيس النظام الملكي الذي كان ظاهره وطنيا وباطنه خاضعا للاستعمار البريطاني، لكنه لم يمنع من ان تتحول تلك الثورة التي بدات في العام 1920 من الاستمرار في المساعي لانهاء الحكم البريطاني بالكامل واسترداد السيادة والاستقلال الوطني.
افرزت الثورة عن نخب وطنية شاركت في بناء الدولة الواعدة التي مرت بعد هذا الحدث في مطبات وصراعات بين جيل المؤسسين وجيل الابناء اللاحقين، حيث ان الاول كان يرى وبزعامة فيصل الاول بان العراق ليس بحاجة إلى تصادم دموي مع البريطانيين، بل إلى ضغوطات تدريجية تنتزع منهم الاستقلال بينما كانت الاحزاب الوطنية ترى بأن الانتفاضات والثورات هي وحدها من ينهي الصراع مع البريطانيين ويعيد إلى العراق هويته
 واستقلاله.
كانت ثورة العشرين حدثا بارزا في مسار التاريخ السياسي الحديث للبلاد حين افرزت وعيا سياسيا وتلاحما وطنيا فاعلا وحقيقيا وهوية جامعة بعد ان كان الاستعمار البريطاني يراهن على اشاعة مفاهيم التفرقة والتقسيم وجذب عدد من الشخصيات الاجتماعية والقيادية في البلاد إلى جانبه من اجل اضعاف النسيج الوطني وتمرير مخططته في البلاد مثلما نجحت تجربته سابقا في الهند، حين تمكنت بريطانيا من فرض هيمنتها على الهند ذات الكثافة السكانية العالية والمساحات الشاسعة ونجاحها في ادامة وجودها الاستعماري لقرون عديدة من خلال تبنيها لسياسات التفرقة والاختلاف بين قادة شعب الهند وقتها. اكثر من قرن مضى على اندلاع تلك الثورة، لكنها لا تزال خالدة ببطولات رجالها الذين لم يستسلموا أو يتقاعسوا عن اداء واجبهم في نصرة البلاد وشعبها واجهاض مخططات المستعمرين، التي أرادت أن تصنع لهذه البلاد تاريخا ومستقبلا مغايرا لولا بطولات أولئك الثوار..