أقصى اليمين بات العنوان الرئيس في أوروبا

آراء 2024/07/09
...









 سناء الوادي 


« هذا جناهُ أبي عليَّ وما جنيت على أحد « بيت شعر انطبق بكل ما فيه على متغيرات السياسة التي تعصف بدول الاتحاد الأوروبي، فها هو التيار اليميني المتشدد يمسك بزمام الأمور مجدداً بعدما جنحت إليهم أفئدة الناخبين بكل بقاع القارة العجوز، فكان انتصارهم لطمةً حادَّةً على وجوه اليساريين والوسطيين، الذين بات حالهم كحال لاعبٍ سجّل هدفاً في مرماه في الدقيقة الأخيرة من المباراة.

هذا ووسط خيبة السياسيين وامتعاضهم وتخوّفهم من المفاجآت المنتظرة على كافة الأصعدة المجتمعية الداخلية وكذلك القرارات السياسية الخارجية التي قد تغير وجهة أوروبا في قادم السنوات، تبرز هنا آمال مواطني هذه الدول جليةً بتغيير الواقع وتعديل دفة القيادة بما يعيد لهم اقتصادهم وهويتهم الوطنية وقيمهم التي سلبها منهم اليسار تحت مسمى الحريات.

 إنَّ المراقب لتطور المجتمعات الغربية ككل يدرك أنَّ هذه هي النتيجة الحتمية لها، فقد كنت أشرت في مقال سابق إلى ضرورة حدوث هزَّة سياسية في الغرب وإلّا فإنَّه يسير نحو الهلاك بخطى متسارعة، حيث أن عديد الكتّاب والفلاسفة أنذروا من اقتراب نهاية المجتمعات حينما تبدأ بالتآكل الداخلي وهذا ما كان يحدث ـ منظومة القوانين التي تحد من عدد المواليد، دعم المثلية، هدم الأسرة، إباحة الإجهاض، الابتعاد عن أخلاقيات وروحانيات الدين ـ فمنذ أن قامت الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر ضد سلطة الكنيسة ونفوذ البابا والاتجاه للعلمانية والديمقراطية وحماية الحقوق ورفع مستوى الحريات، ظلَّ اليمينيون راسخين على معتقداتهم مناهضين لكلِّ الأفكار الاتحادية والمنفتحة على الغير « فتجدهم عدائيين لفكرة الاتحاد الأوروبي « وديدنهم الأول المصلحة الوطنية الداخلية.

ومن ذلك قد يتوضّح لنا لماذا انتصر اليمين المتطرف هذا الانتصار الساحق في عموم أوروبا ونالت أحزابه قرابة الثلثين من مقاعد البرلمان الأوروبي، فالشعب يريد أن يمسك بقشتهم لينقذ نفسه من الغرق في المستنقع الذي جلبته لهم قرارات سياسي اليسار والوسط على حدٍّ سواء، فغدوا كعصاة بيد أميركا تحركها كيفما أرادت وحرب أوكرانيا خير دليل على هذا، فأفرغت جيوب الأوروبيين ورفعت نسب التضخم لديهم لأعلى المستويات واستنفذت سلاحهم وقطعت عنهم النفط والغاز الروسي ـ نورد ستريم 1 و2 ـ وعاشوا دوامة الصراع الروسي الأمريكي من غير ناقة لهم ولا  جمل، ناهيك عن قوافل اللاجئين التي اجتاحت دولهم فأضافت ثقلاً على واقعهم المتعب.

إذاً لا بدَّ من ربّان يغير اتجاه السفينة فيوقف النزيف المالي الداعم لأوكرانيا وينهض بالاقتصاد الوطني لكلٍّ منها ويحدُّ من الوجود الأجنبي على أراضيهم بحجة صعوبات الاندماج مع نشر مفاهيم الإسلاموفوبيا التي ترفض الآخر وتثير الذعر منه لاستعادة الهوية الوطنية المهددة بالضياع في مجتمعٍ هرم  ولا أخلاقي.

وللعودة خطفاً للمقولة التي ذكرتها في بداية مقالي فمن أوصل اليمين المتطرف لمقاليد السلطة في عموم أوروبا ولأول مرة بهذا الشكل كانت حماقات اليساريين وتبعيتهم للبيت الأبيض مما ضاق ذرعاً بالمواطنين حتى باتوا يلتمسون الأمل من اليمين وقرارته وسياساته التي ناهضوها يوماً ما.

فقد قال فولكر ترك المفوض الأممي لحقوق الإنسان « صعود اليمين المتطرف هو جرس إنذار يجب أن نقرعه « تنطلق هذه الكلمات للمفوض من مخاوف تؤرق اليساريين من حيث قيام اليمين بنسف السياسات الخضراء وقطع سلسلة الطموح للاتحاد الأوروبي بأن يتصدر العالم في ما يتعلق بدعم البيئة وتبرير ذلك بأن التكلفة العالية لهذا التحول الأخضر قد تزعج ملايين الأوروبيين، هذا فضلاً عن القوانين التي قد تُسن للحد من الهجرة واللجوء والتي ستكون أكثر صرامة ما يفقد القارة العجوز الأيدي العاملة الفتية في أسواق العمل والعقول التي ترفد الجامعات، أما في ما يتعلق بالصعوبة المتمثلة بعرقلة توسعة الاتحاد الأوروبي مستقبلا فقد يمنع اليمين المتطرف إدخال الدول الفقيرة للكيان الاتحادي بحجة أن ذلك سيزيد من العبء الاقتصادي والاستراتيجي عليه مثل صربيا وجورجيا وأوكرانيا وغيرها.

وفي ظل هذه المخاوف فقد أشاع اكتساح اليمين لسدة السلطة موجة من الأمل بقرب انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية لسبب ذكرته آنفاً، ناهيك عن توقعات تشير بازدياد الضغط على إسرائيل بإيقاف الحرب على غزة والتسليم بحل الدولتين، خاصةً مع ارتفاع نسبة الرافضين لجرائم الإبادة العنصرية التي تقوم بها إسرائيل.

إذاً نحن أمام مستقبل مليء بالمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوروبا وهذا ما سيرخي ظلاله على العالم.


كاتبة وإعلامية سورية