عبد الأمير المجر
عندما كتب احمد عباس صالح، كتابه الشهير (اليمين واليسار في الاسلام) فإنه أراد القول، إن مفهومي (اليمين واليسار) سياسيان، وأنه لا يوجد شخص أو جهة ما تدعي احتكارها لأي منهما ما لم تترجم ذلك بسلوكها ومواقفها، وأن ما حصل من تشخيص أو فرز للمواقف في الجمعية الوطنية الفرنسية مطلع الثورة العام 1789 لم يكن في مضمونه غير مسبوق، وإنما كان في سياق جدل الثقافة والسلطة عبر العصور ومنه ما حصل في صدر الإسلام.. لكن العالم لم يشهد صراعا اختلط فيه الثقافي بالسياسي، كالذي حصل في القرن الماضي وتحديدا بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن أصبح لكلمة (اليسار) فعل السحر على النفوس، لأنها تعني الحرية والخبز والتطلع الدائم لحياة أفضل، بينما صار (اليمين) يعني خلاف ذلك أو هكذا تم تسويقهما!
أوروبا مهد التحولات السياسية الكبرى وميدان الثقافات المتعددة، التي انضجت مفهومي (اليمين واليسار) الحديثين، بوصفهما منتجا لمسلسل طويل من صراع حضاري وثقافي كبير، باتت اليوم حائرة في كيفية التعامل معهما.. نعم، لقد وصل الامر إلى هذا الحد بعد أن فقد المفهومان معنييهما التقليديين وتداخلا كنتيجة حتمية لمعطيات الحياة الحديثة، بفعل التقدم التكنولوجي الهائل، وردم الهوة الكبيرة بين الفئات الاجتماعية وتبلور قيم ثقافية وحياتية جديدة تجاوزت اهداف (اليسار واليمين) معا، واصبحت أوروبا اليوم مختلفة تماما عما كانت عليه قبل نصف قرن وأكثر، فاليمين اليوم لم يعد عبئا على أصحابه، مثلما لم يعد اليسار امتيازا، اذ لم يعد وحده من يدعي الانتصار للعدالة الاجتماعية والتطلع الدائم إلى الامام، والتجارب السابقة أثبتت أنه لا بد من مزاوجة الرؤيتين لإغناء الواقع وتكريس مبدأ التجاور بدلا من التجاوز، وهو ما يحصل اليوم بشكل أو بآخر.. لكن الشيء الجديد الذي برز بقوة في العقود الأخيرة، هو أن ما يعرف بـ(اليمين المتطرف) في أوروبا.. وهذه عودة مرة أخرى للعبة المفاهيم والمصطلحات!.
لم يعد اليوم منبوذا كالسابق أو هكذا كان ينظر اليه، كونه بات (ببرامجه) يعكس تطلعات الملايين في القارة الأوروبية والمتمثلة برغبتهم في الحفاظ على الهوية الخاصة لتلك الشعوب بعد أن صار عدد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين فيها يعادل تقريبا عدد أبناء البلدان الأصليين، وأن واقعا ديموغرافيا جديدا بات يتشكل هناك ويدفع بالناس إلى التصدي له، من خلال هذه الاحزاب التي توصف باليمينية المتطرفة، لذا أصبح حتى وصفها بالتطرف محرجا، لأن من غير المعقول أن تكون هذه الاعداد الهائلة من الناس (مدانة اخلاقيا) لانتخابها تلك القوى (اليمينية المتطرفة)، وتدعم برامجها، ما لم يكن هناك واقع ضاغط دفع بها إلى الاحتماء بتلك القوى، التي باتت وكأنها تمثل الصوت الأعلى للشعوب الرافضة للتحدي الديموغرافي، الذي تشهده القارة.. وأن احزاب (اليسار والوسط الديمقراطي) وجدت نفسها في مأزق مركب، فهي لا تريد أن يقال عنها امتثلت لرغبة (الشارع اليميني المتطرف) إن ذهبت معها في برامجها! ولا تستطيع ايضا مقاومة واقع ديموغرافي بات مرفوضا من كتل جماهيرية، صار يحسب لها حساب وجعلت هذا (اليمين المتطرف) متصدرا نتائج الانتخابات بشكل غير مسبوق.. فمن يجرؤ بعد على اتهام (الجماهير) أو تسفيه مطالبها، وقد باتت بهذا الحجم والقدرة على التأثير؟!
نتائج انتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي الاخيرة والانتخابات في فرنسا والمانيا وغيرها من بلدان أوروبا وضعت المفكرين والاستراتيجيين الاوربيين وغيرهم أمام اسئلة جديدة.. وقد تنتج مفاهيم جديدة ايضا.. بعد أن بات المفهومان التقليديان (يمين - يسار) من تركة الماضي! وأن فوز حزب العمال البريطاني (اليساري) في الانتخابات الاخيرة، لا يعني أبدا عودة اليسار على حساب اليمين (المحافظين).. وإنما كان إفرازا لحسابات اقتصادية تتصل بحياة الناس اليومية في ظل نظام سياسي معروف.. راسخ ومستقر.