القمع في المواقع

آراء 2024/07/22
...

 د. محمد وهاب عبود

 مبتكرو المواقع والقائمون عليها قالوا إنها تمثل بداية عصر اتصال وتواصل جديد يقوم على أساس الحرية ويتخطى القيود والحدود، التي وضعتها الحكومات على التواصل بين البشر، وتعزيز لأطر الدعم أوالمشاركة وفضاء رحب للتعبير عن الآراء والأفكار وتحقيق التقارب الثقافي بين الأمم والشعوب وتلقي أخبار العالم بيسر، وتسهيل التعارف والتواصل مع “المؤثرين” والتخفيف من حدة الشعور بالوحدة والانعزال والاكتئاب، كل ذلك يمكن تحقيقه دون مغادرة المنزل. كان هذا ديباجة منصات التواصل الاجتماعي والمحرك، الذي أطلق الفكرة المجردة إلى حيز الوجود
البدايات غالبا ما تكون جميلة وملهمة، وقوة جاذبة لمن تستهويه التجارب الجديدة أو لمن أنهكته الأوضاع القديمة، البدايات تعمل على تأطير نفسها بالكمال والمثالية، وتؤكد قدرتها على تحقيق ما عجز الكثيرون عن تحقيقه، لكن العبرة بالمسارات والنهايات.
لقد قوبلت الانطلاقة الأولى لمواقع التواصل الاجتماعي بإعجاب وانبهار شديدين، إلى درجة أن بعض الآراء المفرطة في التفاؤل وصفت الفكرة بـ “جنة التواصل” وأخرى حالمة أطلقت على تلك المنصات عبارة “واحة الحرية في الفضاء الرقمي”، وثمة وجهة نظر أكاديمية وجدت أن هذه المواقع هي إعلام بديل تمكن من الإفلات من قبضة الرقابة والاحتكار المتجذر في وسائل الإعلام التقليدية، وقلة أولئك الذين نظروا بعين التوجس إلى هذا المنتج الرقمي الجديد.  
مبتكرو المواقع والقائمون عليها قالوا إنها تمثل بداية عصر اتصال وتواصل جديد يقوم على أساس الحرية ويتخطى القيود والحدود، التي وضعتها الحكومات على التواصل بين البشر، وتعزيز لأطر الدعم أوالمشاركة وفضاء رحب للتعبير عن الآراء والأفكار وتحقيق التقارب الثقافي بين الأمم والشعوب وتلقي أخبار العالم بيسر، وتسهيل التعارف والتواصل مع “المؤثرين” والتخفيف من حدة الشعور بالوحدة والانعزال والاكتئاب، كل ذلك يمكن تحقيقه دون مغادرة المنزل.
كان هذا ديباجة منصات التواصل الاجتماعي والمحرك، الذي أطلق الفكرة المجردة إلى حيز الوجود. لا يمكن إنكار أن التواصل الحر قد تحقق، كما يمكن إثبات أن أغلب ما ذكر في إعلان المؤسسين عن الدوافع والأهداف والغايات من وراء صناعة منتجهم يجافي الحقيقة ويشذ عن الواقع، وما يُفسر هذا التناقض هو استحالة وجود إنسان بدون موقف أو رؤية أو منهج أو أيدولوجية، وبالتالي كل ما يصنعه لا بد أن يمس صنيعته شيء من هذا، لا سيما إذا ما أقرينا بأن تلك المواقع هي مؤسسات بمضامين إعلانية ودعائية وترويجية تهدف للربح المالي وتخضع بشكل أو بآخر لقيم السوق، الذي يُعد التنافس عنصرا من عناصرها، فعلى صخرة الربح والمنافسة قد تتحطم الكثير من القيم الأخلاقية والإنسانية وتتلاشى.
لقد تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى فضاءات واسعة للمناظرات والمناقشات السياسية، هذا التحول دفع المنصات إلى تبني سياسات واستراتيجيات مختلفة للإشراف والرقابة على المحتوى وحتى التدخل في إدارته، هذه الممارسات أدت إلى تعرض المنصات لوابل من الانتقادات والاتهامات تتعلق بفرضها رقابة وقيودا على الوصول وجهات نظر سياسية لا تتماشى مع ميولها الأيدولوجية وتوجهاتها السياسية.
ففي الولايات المتحدة، ورغم التحفظات الكثيرة على شخصية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب المثيرة للجدل، إلا أنه مثال بارز على ذلك، عندما قررت منصات عدة ومن بينها فيسبوك إيقاف حسابه عقب أحداث 6 يناير 2021.
وبين الموقع أن القرار جاء استجابة لتوصية مجلس الرقابة في الموقع. هذه الخطوة جعلت المواقع تواجه اتهامات بامتلاكها تصنيفات سياسية معينة للمحتوى. كما عمدت بعض المنصات إلى حذف المنشورات المشككة في نزاهة الانتخابات الأمريكية 2020، والآراء المنتقدة للسياسات التي اتبعتها الإدارة الأمريكية إبان تفشي وباء كورونا.
ولم تقف إجراءات الرقابة إلى هذا الحدد، فقد أنشأت المواقع أنظمة وخوارزميات للتحقق من صحة المنشورات والحد من انتشارها، لكن من زاوية نظرها الخاصة، فثمة محتوى تعتبره كاذبا وآخر مضللا، فضلا عن إضافة علامات تحذيرية إلى المنشورات المُشاركة أو العمل على تقليل ظهورها لدى المستخدمين.
يفسر بعض الأمريكيين ذات التوجه النقدي لسياسات وسائل التواصل الاجتماعي ودورها السياسي، بأن معظم مقار تلك الوسائل يوجد في وادي السليكون صاحب الميول الليبرالية، وبالتالي يتهمونها بالتحيز الأيديولوجي والسياسي ضد وجهات النظر قوى اليمين، من خلال فرض رقابة على منشوراتهم.
كما يرون أنه من خلال إزالة أفكار ورؤى معينة، فإن المنصات تمارس تكميم الأفواه وتحد من حرية التعبير وتحجب الحوار المفتوح بشأن القضايا المهمة وممارسة التعسف في الرقابة والإشراف.
أما في ما يتعلق بطريقة تعاطي المنصات مع قضايا الشرق الأوسط واستقطاباتها السياسية والأمنية، فقد شهدت الساحة التواصلية في تلك المواقع إجراءات رقابية صارمة وتوجهات منحازة، لا سيما بشأن المحتوى الرافض والمندد بجرائم الكيان المحتل بحق الشعب الفلسطيني، واستمرار حملات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتجويع ضد المدنيين في قطاع غزة، ونظرا إلى اتساع رقعة احتجاج شعوب المنطقة وكثافة المنشورات المطالبة بوقف المجازر بحق الفلسطينيين، فقد صعَب على المواقع مهمة مراقبة هذا الكم الهائل من المحتوى، مما اضطرها إلى اعتماد الذكاء الاصطناعي وتدريبه على نماذج لغوية معينة تقلل الوصول إلى المحتوى أو عدم إظهاره أو إزالته تماما، فقد يستغرب بعض المستخدمين بأن أصدقاءهم لم يطلعوا على منشوراتهم، وأحيانا تصلهم رسائل من المواقع تفيد بأن المحتوى غير مهم أو ينتهك القواعد.
وفي المقابل، تحظى المنشورات المشبوهة والمخلة ومحتوى الخلاعة والتفاهة بالترويج والانتشار على نطاق واسع حتى دون تمويله، بغية وصوله إلى أكبر قدر من المستخدمين، فأصبحت المنصات تنتهج أسلوبا من محورين: الأول، السيطرة على مركزية الخطاب السياسي والإعلامي، الذي تراه مناسبا وبما يخدم سياساتها العامة. والثاني إغراق المواقع بالمحتوى القريب للإباحة لحرف اهتمامات فئة الشباب عن القضايا المحورية واشغاله بالإثارة البصرية، إضافة إلى التوسع بالأنشطة الإعلانية التجارية التي تعد موردها المالي الأساسي. إن هذه المنصات أو الشركات، بالمعنى العام، تمتلك أدوات تأثيرية واسعة وقدرات مالية كبيرة، ولديها سلطة في تشكيل الخطاب العام بفروعه السياسية والإعلامية والأيديولوجية، فالمخاوف بشأن تأثيرها مبررة، فيما يبقى التركيز على زيادة الوعي المجتمعي هو العامل الحاسم في فهم استراتيجيات وأهداف وآليات عمل هذه المنصات والحد من مخاطرها على مستوى الفرد والمجتمع ككل، إلى حين إنشاء مواقع بديلة ذات توجهات معتدلة ومسؤولة