كربلاء وغزَّة في سؤالٍ واحد

آراء 2024/07/23
...

 حسن كزار


 لم تظفر الأدبيات التاريخيَّة بقضيةٍ أوضح من ملحمة كربلاء، إذ كانت ‏من السطوع والبيان بمكان عالٍ، فهي من شكّلت دعوةً مهمةً في تصحيح التاريخ والدين، لذا سعت أطرافٌ تأريخية من أعداء الهوية إلى تغطيتها وتأجيل المساءلة المرتقبة من أجل العدل والإنسانية والإصلاح، وهذه هي مرحلة المواجهة، بين العربي وهويته الوجودية، التي تنتظر تلك اللحظات لتصل إلى مرفأها الآمن، فصاحبها ابنُ نبي هذه الأمةِ، الذي انتظرته الأرض والعرب طويلا.

‏وبقيت تلك المسالك آفاقاً رحبةً لرجالات التاريخ العابثين، الذين وقفوا في منتصف المحنة وربما أقرب إلى بدايتها المشحونةِ بالظلام والعنف والإلغاء، لم تكن صورة الربِّ قد اكتملت عندهم، إنَّهم دائما ما يصنعون ذكرى السامريّ، أنهم تمنوا فعلا غياب موسى. ‏

 سجّلت لحظة كربلاء أبجدية فارقة أُعِدَّ متنُها لعودة الحياة إلى الحياة، والدين إلى الدين، والإنسانية إلى الإنسانية، عبر رائد فريد، يحمل النبوة والإمامة، ومعه عهد الأنبياء والمصلحين، وبالرغم من كلِّ ما واجهه العرب، من ضياع وتخلف وغياب، لم يعودوا إلى تلك اللحظة والاندماج في مشروعها القويم.

‏ اللحظة التي عاد فيها خطُّ النبوة مرةً أخرى يهدي الأرض وضعاً إنسانياً واجتماعياً مضموناً، دون النظر إلى حجم الفداء هذه المرّة، وهنا سعت الهمجية العربية- أصلاء ودخلاء شعوبٌ وأرباب- إلى نسيان مأزقها الجاهليّ وغيابها الطويل عن تمثيلها الحضاري، و لم تسعفها الثورة العظيمة تلك، فبقوا في قديمهم الأول مع اختلافٍ في وجوه الورثة، ورثة العداء والقتل والطغيان، واهم من هذا محنة الوجود في خارطة الكون أمام الوجودات الأخرى، التي جعلت منهم ملحقاً على هامش الكون، يُنفذ ويَتبعُ الآخر بهوية غريبة، يَحضرُها التشوهُ في كلِّ حقبة، غرباء أينما دارت الأجيال، ومنسيين بلا صوت.

‏ومِثلُ كلِّ محن العربِ والإسلام، تأتي غزّة في قافلة الضياع الطويلة، التي شغلت قرنا من زمن التشكيل العربيّ، أنها صوتهم المقموع في ضميرهم الغائب، تَعاهدوا على نسيانها وهجرها في كل صيحة استغاثةٍ، إنَّهم شكلوا رهاناً على موتها وإخفائها.

‏مشت ‏غزّةُ في محنتها وحيدةً، تنظر صوب أهلها، لعل نداءً لرسول الله باقٍ فيهم، لكنها أيقنت نسيانهم هذا الصوت السماوي، وخلّدوا ذكرى ما قبل خَيبر، واختاروا القِبلَةَ الخاطئة، وبدلوا شعار وجودهم بالتسابقِ إلى بناء وجود عدوهم، يجيدون قتل أهلهم ولا يجيدون رفع حاجبهم ضد قاتلهم، يركضون إلى تجميل شواهد قبورهم قبل أن يجدوا حياتهم وحقهم.

لقد انشغل الجميع بإنتاج خطاب الكراهية ليدفعوا انفسهم إلى الاقتتال الدائم، الذي كان بمثابة هدية إلى مغتصبهم، بعد هدية الوعد الأولى، فهو من سنَّ هذا الطريق المظلم وشرعنه لهم، عبر اشعال الفتيل والمراقبة من بعيد، تلاقت هنا غزَّة مع كربلاء، فالحق معلومٌ وهو من يخطّ الطريق نحو استرداد الوطن، انهم في سؤال واحد، له إجابة واحدة، تشير إلى أنَّ العدوَّ واحد، يتصلُ قديمه بحديثه، إنَّه أدمن موقع الاستعباد والتضييع، استثمر القتال بالنيابة. 

‏كانت غزَّة مِثل كلِّ المظلومين تنتظر الحسين أن يهبها صبرا وانتصارا، أن يعيدها إلى الوجود الأبدي، لكنَّ حُمَاتَها يقلدون جيش عمر ابن سعد، ففي لحظة واحدة تخلوا عن نبوتهم وقِيمِهم، وراء بريق الدنيا ومكاسب الخداع، إنَّهم أشكال غير معروفة، عصيّةٌ على التسمية والتمييز، ‏يجيدون تبديل الألوان عبر ممرات باهتة.

‏وصلَ الحسينُ وأصحابه يوم عاشوراء إلى مغتسلِ الشهادة والحرية والرفض، وحققوا ارادة الرب في إيقاف الباطل وهزيمته، واثبتوا للأجيال أنَّهم خالدون في صوتهم، انه من صوت الله، وظلّت غزَّةُ تبحث عن الحسين لعلها تظفر بلحظة القيامة.